كان الصباح الأول في (روما) مختلفًا عن صباحات المدن الأخرى، كان دافئًا حد الاستثناء، كانت قطرات الندى كقطع البلور تتناثر على زجاج سيارتنا التي انطلقنا بها في أولى جولاتنا في هذه العاصمة المترامية، أوقفنا السيارة في وسط المدينة، وترجَّلنا لنزور أولى الساحات التي تشتهر بها (روما)، كانت ساحة (نافونا) صغيرةً إلى حدٍّ ما، غير أن نافورات المياه والتماثيل الضخمة التي تتوسَّطها منحتها مشهدًا متميزًا وجاذبًا؛ ولذا كان الزحام على أشدِّه مع أن النهار لم ينتصف، كان الباعة المتجوِّلون يملؤون الساحة، وكذا الرسامون وأصحاب المنحوتات الرمزية ولعب الأطفال والملبوسات التراثية وغيرها.
خرجنا من الساحة عبر ممرٍّ صغير وقصير أدَّى بنا إلى ساحةٍ أخرى أصغر مساحةً من ساحتنا الأولى، غير أنها تحتوي على معلمٍ سياحيٍّ شهيرٍ وهو (البانثيون) الذي كان مبنيًا بوصفه معبدًا لجميع آلهة روما القديمة! ومما قرأتُ عنه أنّه يُعدُّ أفضل مبنى روماني أثري من ناحية الحفظ، وربما يكون أفضل مبنى محفوظ من ذلك العصر في العالم، وقد ظلَّ المبنى في استخدام متواصل طوال تاريخه. ويُعتقد أن تصميم المبنى يعود لمعماري الإمبراطور (تراجان أبولودروس الدمشقي)، ومنذ القرن السابع استخدم المبنى بوصفه كنيسة مسيحية، وهو الآن أقدم مبنى بقبة ما زال قائمًا في (روما).
كان المقصد الثالث لهذا اليوم الدافئ الجميل هو نافورة (تريفي) الشهيرة التي يُقال: إنه عندما تلقي قرشًا فيها فإنك ستزورها مرة أخرى، ولذلك اشتهرت هذه النافورة في كثيرٍ من الأفلام كونها مكانًا سحريًا لتجميع الأحلام والأمنيات، كان المكان ممتلئًا بالناس من جميع الجنسيات، كانوا يجلسون حولها لإيداع أمنياتهم أو تصوير أنفسهم مع أحبابهم برفقة الآيسكريم الإيطالي وهم يشاهدون الآخرين من حولهم يحلمون ويتأمَّلون ويتفاءلون، هنا توقَّفتُ أتأمَّل فيما يفعلونه رغم معرفتهم أنها مُجرَّد عادةٍ قديمة، وليست عقدًا موثقًا وموقعًا أكيدًا، لكنهم يشعرون بالراحة عندما يتعلَّقون بحبل الأمل، فالأمل لا يؤذي أحدًا حتَّى لو لم يحدث حقًا، بل يكفي أنّه يمنحنا شعورًا جميلاً في أعماقنا؛ لأنَّ أمل العودة للأشياء التي نحبها أو نتمناها حتَّى لو كان مزيفًا، أفضل من أن نعيش على فقدان الأشياء للأبد. وهنا حضرت في ذهني مقولة الأديب والشاعر الفرنسي (فيكتور هوغو) «عندما لا تتفاءل، يتسوَّس الذكاء».
توجهنا بعد ذلك إلى وسط المدينة لنزور الدومو الشهير (ساحة إسبانيا الكبرى) الذي يتوسَّط العاصمة، كان هذا المكان أكثر الأماكن ازدحامًا، مع أنّه لم يؤذَن لليل بالحلول، وذلك بسبب موقعه المميز، إضافة إلى كونه يحتضن (المدرج الإسباني) الذي هو عبارة عن درج واسع فخم يتألف من 138 درجة، يُقال: إن الذي بناه هو (فرانشيسكو دي سانكتيس) في أوائل القرن الثامن عشر في نهاية فترة عصر الباروك الإيطالي، والعجيب أنّه على بساطة هذه السلالم وخلو ساحتها من التماثيل المنحوتة التي رأيناها في العديد من الساحات إلا أنّه من أكثر المناطق جذبًا للسياح، وعلمتُ فيما بعد أنّه يُقام سنويًّا في هذه الساحة عرضٌ للأزياء، يُستخدم فيه الدرج منصةً للعارضات، وحين تصعد هذه السلالم تواجهك كنيسة (ترينيتا دي مونتي) إحدى أجمل الكنائس بناءً وتصميمًا.
ولعلَّ مما زاد من شهرة هذه الساحة وتزاحم السياح فيها كونها تطلُّ على أكثر شوارع (إيطاليا) تميزًا، وتتَضمَّن أرقى محلات بيوت الأزياء الإيطالية، وأجمل المقاهي الجذابة، ويتوَّج جمال هذا المكان نافورة (باركاتشا) التي تقع بالقرب من قاعة الدرج، أما محبو الأدب والشعر فيجب ألا يفوتوا زيارة المنزل التذكاري لـ(جون كيتس) و(بيرسي شيلي) الذي يخلِّد ذكرى شاعري الرومانسية الشهيرين.
وحين حل المساء نوينا التوجُّه إلى إحدى دور السينما لمشاهدة أحد الأفلام التي تمتلئ شوارع (روما) بالإعلان عنها، غير أن العجيب هو ما أخبرتنا به موظفة الاستقبال من أن جميع الأفلام المعروضة في صالات هذه السينما إما إيطالية أو مدبلجة إلى الإيطالية، وهنا خاب مسعانا في الدخول، إلا أني أكبرتُ فيهم هذا الاعتزاز اللغوي الذي كان هذا الموقف واحدًا من مواقف عدَّة لاحظته فيه.
كان يومنا الثاني في (روما) كبقية الأيام حافلاً بالمفاجآت، كان بدايات هذا اليوم خاصة بالندوة التي دعيت إليها وكانت هذه الرحلة من أجلها، ولأن حديث هذه الأسطر يسير في سياق وصف المدينة وما تمتاز به من معالم سياحيَّة وتراثية وثقافية فقد فضلت إلا أقحم القارئ في حديث علمي عن هذه الندوة، ويكفي أن أقول إنَّ الاستقبال والترحيب الذي لقيتهما أشعرني بالخجل كثيرًا، إضافة إلى أني سعدتُ بلقاء زملاء وزميلات من بعض الجامعات السعوديَّة، بعضهم شارك في هذه الندوة وأثراها بالنقاش، غير أن هذه السعادة خالطها شيء من الأسى والأسف بعد انتهاء أعمال الندوة حين تذكَّرت كثيرًا من ندواتنا ومؤتمراتنا وموضوعاتها، وما تخرج به من نتائج وتوصيات! ولأن مكان الندوة كان ملاصقًا (للفاتيكان) فقد توجهنا بعدها إلى أكبر كنيسة داخليَّة من حيث المساحة في العالم، وهي كـ(الفاتيكان) فقد توجهنا بعدها إلى أكبر كنيسة داخليَّة من حيث المساحة في العالم، وهي كنيسة القديس (بطرس) التي بنيت في أواخر عصر النهضة، وتعد أكثر المواقع قداسة وتبجيلا في الكنيسة الكاثوليكية، وشدني ذلك الطابور الطويل من الناس الذين يرغبون في زيارة هذه البناية الضخمة، وازداد عجبي أكثر حين لاحظتُ رجال التفتيش الذين يقفون عند مدخل الكنيسة وهم يمنعون الدخول بالمأكولات والمشروبات والآلات الحادة، كما يمنعون أيّ امرأة من الدخول بملابس غير لائقة لا تتناسب مع هذا المكان المقدس!
كانت الكنيسة ضخمة للغاية، وتحتوي على عدد كبير من القطع الفنيَّة التي تعود لفترة عصر النهضة والفترات اللاحقة لها، ومن أشهرها على الإطلاق أعمال (مايكل أنجلو)، وأبرزها تمثال (الرحمة) الذي يصور السيد المسيح - عليه السَّلام- وهو في حضن أمه بُعيد إنزاله من الصليب حسب اعتقاداتهم، والعجيب الذي يلفت النظر في هذا السياق هو حرصهم الشديد على مثل هذه الأعمال الفنيَّة التراثية التي تمثِّل جزءًا مهمًا من عقيدتهم وإرثهم الحضاري، ومن الدلائل على ذلك أن هذا التمثال كان بعيدًا عن أيدي الناس، يفصل بينه وبين الناس مسافة تزيد عن خمسة أمتار، فضلاً عن حائط زجاجي سميك لا يمكنك مشاهدة التمثال إلا من خلاله.
كانت الخطة تقضي بعد ذلك أن نتوجه إلى ساحة (بيبلو) الشهيرة بموقعها المتميِّز المقابل للمدرج الإسباني، وتدخلك على شارع الماركات الشهيرة، وفيه تقام عديد من العروض والفعاليات، ويمتلئ المكان في اللَّيل بالكثير من السياح الذي يستمتعون بقضاء أجمل الأوقات في هذه الساحة البديعة، أما المدهش فيها فهو الحديقة التي تقع في أعلاها، ومن خلالها يمكن أن ترى معظم مدينة (روما) بمبانيها الضخمة وكنائسها الشهيرة وأضوائها الجميلة وهي تصافح السَّماء وقت الغروب.
أما اليوم الأخير من هذه الرحلة فلم نشأ أن نفوت فيه زيارة اثنين من أهم المعالم في (روما)، ومن غير المعقول أن تصل إلى هذه النقطة من العلم دون أن تزورهما، أما أولها فهو المدرج الروماني الشهير (الكولسويوم) الذي يرجع بناؤه إلى عهد الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول الميلادي، وكانت ساحته تستخدم في قتال المصارعين والمسابقات الجماهيرية كالمعارك البحريَّة الصورية وصيد الحيوانات والإعدام وإعادة تمثيل المعارك الشهيرة والأعمال الدرامية التي كانت تعتمد على الأساطير الكلاسيكية، كان المبنى في غاية الروعة والإتقان رغم ما أصابه من تهدم في إحدى نواحيه من الأعلى، وكان بحق يقف بوصفه نصبًا هندسيًّا دالاً على عبقرية الهندسة الرومانية.
أما المعلم الثاني في زيارتنا هذا اليوم فهي (روما القديمة) التي تصور تلك الحضارة التي انبثقت عن مجتمع زراعي صغير في شبه الجزيرة الإيطالية في بداية القرن العاشر الميلادي، وظهرت على طول سواحل البحر الأبيض المتوسط، وأصبحت فيما بعد واحدة من أكبر امبراطوريات العالم القديم، كان المكان أشبه بمدينة أشباح، وكانت مبانيها الطينية صامدة رغم ما ألحقه الزمان بها من صروف ونوائب، كنتُ عبر ممراتها أتخيل أهلها وهم يتمشون في شوارعها الضيقة ويبيعون في المحلات، وربما ساعدني في هذا التخيل ما سبق أن شاهدته من أفلام تاريخية تصور مثل هذه المجتمعات القديمة، كنت أردد قول الشاعر:
قِفْ في ديار الظاعنين ونادِها
يا دارُ ما فعلتْ بك الأيام؟
كانت الشمس تغرب في تلك الأثناء مؤذنة بدخول آخر ليلة في هذه الأراضي الساحرة، قضيناها في تلك الشوارع المضيئة التي تصل المدرج الإسباني بساحة (بيبلو)، كانت الطرق تغص بالسياح من جميع الجنسيات، كانت تلك اللحظات لا تنسى، حيث العروض المبتكرة، والضجيج الذي يبث في تلك الطرق روح الحياة، كانت البيتزا الإيطالية هي الوجبة الأخيرة التي ودعنا فيها (روما) كما استقبلتنا بها (ديسنسانو) قبل عشرة أيام، أتبعناها بجلسة بديعة على المدرج الإسباني برفقة الآيسكريم الذي زاد من برودة أجواء تلك الليلة الساحرة حدّ الاستثناء.
***
وفي الصباح الأخير توجهنا إلى المطار الذي لم يكن يبعد أكثر من نصف ساعة، ولم أنس تعبئة خزان الوقود بالكامل كما اتفقوا معي حين استلمت السيارة في مطار (ميلان) أول ليلة لوصولي، كان توجهنا باكرًا لتسليم السيارة إلى الشركة في مطار (روما)، لم تكن المهمة سهلة، كانت اللغة عائقًا دومًا في إنجاز مثل هذه المهام، أما المطار في ذلك اليوم فقد كانت الفوضى تعمه، ولم يكن لائقًا بمطار دولي لعاصمة أوروبيَّة، كان الناس يتكدسون في زحام شديد، أغرب المواقف في المطار حين طلبت موظفة الاستقبال مبلغًا إضافيًّا بحجة أن وزن الحقيبة زائد، أخبرتها أنهَّم لم يطلبوا شيئًا في الرياض، غير أن نظامهم كان صارمًا في مثل هذه الإجراءات، خاصة حين يكون الأمر متعلقًا بالنواحي المادِّية، لكني لم أرضخ لمطالبهم، وكنت مستعدًا لمثل هذه الأمور بحقيبة إضافية صغيرة داخل الكبرى أفرغت فيها بعض الأغراض ليكون الوزن مقبولاً.
كانت عقارب الساعة تشير إلى الساعة الرابعة عصرًا حين ركبنا الطيارة، كنت أشعر وقتها بحنين قاتل إلى الوطن، وشوق فياض إلى الأهل والأحبة، غير أن الحزن كان حاضرًا في تلك اللحظات حين أدركتُ أن رحلتنا التي تجاوزت حدود الخيال قد أُسدل فصلها الأخير، شعرتُ أننا نعود لعالم الواقع بعد رحلة في فضاءات الخيال الحالم، امتدَّ هذا الشعور أسبوعًا كاملاً بعد وصولنا إلى الرياض، حينها أيقنت حقيقة واحدة، هي أنّه ليست الطرق كلّّها تُؤدِّي إلى (روما).