ليست هناك طباعة تتحرك فوق الأرض هي الأصل، فالطباعة خلق جديد.
ومن هنا بدأت جدلية حقيقة «علاقة الأصل بالطباعة المتحركة» ومدى التزام التوافق بين الأصل وتلك الطباعة.
ظلت فكرة « هل الإنسان مخيّر أم مسيّر؟ « جدلية مُحيّرة للعلماء لنوع العلاقة بين أصل الإنسان وطباعته المتحركة بالاكتساب، جدلية محيرة لأنها تتعلّق بقيمة إرادة التخيير وقدرية التسيير.
وكل ما أنتّج من إجابات لتفاعلات تلك الجدلية ظلت أقرب من الاعتقاد منها إلى اليقين أو التأكيدية.
وأظن أن السبب في عدم تقعيد أو تأسيس ثابت لنتيجة تلك الجدلية هو ارتباطها بخلفية البراهين المتغيّرة، أو يمكن القول بما تتميّز به من «مرونة خلايا الأصل في التشكّل والتجدّد»؛ مما يعني أن الإقرار بضمان ردة فعل ثابتة طويلة المدى غير ممكنة غالباً.
لا يُفهم من قولي السابق أن هناك «عبثية بين الفعل وردة الفعل» أو غياب اقتضائي بينهما؛ لكن ما أقصده أن جدولة التوافقية بين المُثيرات والاستجابات مُحددة بصلاحية زمنية متى ما تجاوزت تلك الصلاحية مداها الزمني فُقدت التوافقية بين المثيرات والاستجابات، وهكذا تتحرك تلك التوافقية ضمن المتداول أو المتغاير أو المتطور.
ولنضرب مثلاً في هذا المقام برؤية المجتمع السعودي وموقفه من المرأة فقبل عشرين سنة أو عشر سنوات لم تكن نفسها الرؤية والموقف من المرأة التي هي الآن إنما تغيرت؛ فأصبح المثير الذي يوجب استجابة رفض لفكرة ما أو موقف ما اليوم ذات المثير لكنه أوجب استجابة مختلفة. ولذلك علينا دوماً في عملية تطور العقل الاجتماعي أن نراهن على الزمن في تغيير الاستجابات المتطرفة ؛نظرا لزمن الصلاحية المؤقت بين المثيرات والاستجابات، فليست هناك استدامة خطية بين مثير واستجابة وتلك خاصية مهمة وخطيرة في ذات الوقت.
حتى على مستوى الدين مع أنه «مثير يُحسب ضمن الثابت» إلا أنه لا يملك تحققاً تلقائياً لاستدامة الاستجابة المتعلقة به، فالاستجابة قد تتعرّض لتفاوت وتغيير، ولذلك جاء دعاء التثبيت في القرآن «ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب»- آل عمران-، وما تعلمناه من الميراث النبوي الكريم «اللهم يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك».
وهو ما يعني أن حركة الطباعة الموجهة هي مرتبطة بصلاحية محددة، تتحرك وفق قوة فاعل التأثير أو وفق قوة الدورة الحيوية لفاعل التأثير.
وتتجلّى هذه الفكرة في إحدى قواعد النظرية السياسية «لا عداوات دائمة ولا صداقات دائما».
والصلاحية المؤقتة هي ميّزة في ذاتها لأنها تسهم في التطور والتغيير والترقي، ولو ظل الإنسان صاحب طباعة خالدة ما استطاع التحضر وبناء حضارات متتابعة ومتراكمة وإصلاحية وتجديدية.
وقد يرى البعض أن هناك استجابات مستدامة، وهي ليست مستدامة إنما هي «الاستجابات المتشابهة»؛ فالصراع مثلاً ينتمي إلى قائمة «الاستجابات المتشابهة» فالاستعمار يُنتج الصراع والخلاف الفكري في المجتمع الواحد يُنتج الصراع، وفي حالة التوافق الفكري ينتهي الصراع وكذلك الأمر في حالة التحرر من الاستعمار.
والطباعة المتحركة هي الممكن الذي نستطيع من خلاله قياس منطق النسبة والتناسب بين «التخيير والتسيير» التي شُكلت تلك الطباعة من خلالهما أو ترتيب أركان الفاعلية.
قلت في الموضوع السابق أن ليس هناك من يولد مجرماً أو إرهابياً.
والنفي لمسئولية الأصل في التشكّل هل هو في المقابل دليل إثبات على مسئولية المُكتسب عن نوعية التشكّل وآثاره؟
ولا أقصد بالنفي السابق الدلالة العدمية فليس من المنطق إخراج أصل الطبيعة من الاحتساب في إشكالية تشكيل الطباعة، لكن نفي مسئولية الأصل متعلق بالأثر لا بالقالب.
ولعل الجملة الأخيرة - الفرق بين القالب والأثر- قد تُثير سؤالاً حول «الشر» فهل أصل الطبيعة يحتوى على قالب الشر أو قالب بناء الجاهزية للشر؟
تحدثت قبل ذلك عن «الشر»، وقلت إننا نكتسبه كما نكتسب الخير من خلال قاعدة وجدانية أو بناءات ذهنية، وأن كل فرد يحدد ماهية الشر وفق ما اكتسبه من إيمان متعلق بتصوره هو أو جماعته وتصديقه هو أو جماعته،وقلت أننا ندرك الشر كما الخير من خلال «قوالب وجودهما»؛ وهذه الكيفية في التحصيل هي التي تجعل حدود المفهومين مبنيين على التنازع المستمر.
ويبنى التنازع على حدود الخير والشر من خلال مجموع الاعتقادات والتصورات التي كونت محتوى ذلك التنازع من خلال التلابس المتداخل في التقاليد والعادات والاعتقادات والأصول والهويات.
والعودة إلى هذا الكلام هي من قبيل التأكيد على أن الشر هو أثر وإن الخلاف بين مفاهيم وقيم القوالب المتعددة هي التي تُنتج ذلك الأثر، ولذلك جاء نفي مسئولية أصل الطبيعة عن صناعة المجرم والإرهابي. ولا شك إن القوالب الصامتة التي تتوزع عليها أصل الطبيعة تخفي داخل كل منها رغبة فاعلية صامتة لتأتي الطبيعة المكتسبة أو الطبيعة الفائضة لتصنع من تلك الرغبة مارد نار؛ إنها ذات الرغبة التي عندما تكاثرت عليها وسوسة إبليس خلقت منها مارد التمرد داخل آدم فعصى ربه، وهي ذات الرغبة عندما صقلت بتأمل صاف هدت إبراهيم إلى خالقه دون مرشد.
وهي ذات الرغبة التي وزعت الخطيئة والقدسية ما بين هابيل وقابيل ابني آدم وكأن مقتضى الحال يؤكد أن أصل الطبيعة مقسومة على اثنين بالاكتساب وإن توحّدا في المصدر.
وتظل ثنائية هابيل وقابيل آية للمتأملين في تعقيد أصل الطبيعة؛ نموذجين للخطيئة والتقديس تفرعا من ذات الجذر فسر في ضوئهما اعتقاد رغم أنه يميل لصف الاستثناء لكنه حجة على تعقيد تكوين الأصل «فيُخلق من ظهر الفاسد عابد، ويخلق من ظهر العابد فاسد».
تبدأ حكاية الصراع بين هابيل وقابيل من رغبة الإنسان في الاستئثار بما يحقق له تكاملاً ومفاضلة عن غيره، والتكامل والتفاضل في ثنائية هابيل وقابيل اللتين أنشأتا الصراع هما «الجمال والرضا».
وليس دائماً السعي إلى التكامل والتفاضل عبر الجمال والرضا مصدر صراع لكنه يصبح كذلك متى ما اقترن بالطمع والرغبة في تجاوز القانون الحتمي من أجل الخلود أو التأليه؛ وهنا نعود إلى أصل الحكاية التي شرحتها في موضوع «ترانيم الشجرة المحرّمة» وكيف عصى آدم ربه بأكل الشجرة المحرَّمة التي وسوس له إبليس بأنها مصدر الخلود فتجاوزت الرغبة قانون التحذير فوقع بقدر في الخطيئة، والتي جعلت الرغبة كرمز لأصل الطبيعة تتقاسم الخطيئة مع دافع الاكتساب، ولعلها ثابت بأن داخل ذلك الأصل رغبة نائمة متى ما استفزتها الطبيعة المكتسبة صنعت منها مارداً.