حديثي اليوم موجّه إلى فئة معينة من الزملاء الكتّاب دون غيرهم.. موجّه إلى حملة الأقلام الحرّة المضيئة، الذين يعملون بجد إلى التجديد.. موجّه إلى مَن خرجت عقولهم على متون أقلامهم المتحضّرة مِن القواقع الصغيرة الضيقة إلى الفضاءات الفكريّة الرحبة، وكسروا برؤوس تلك الأقلام الأبيّة كثيرًا من بوتقات الانغلاق الثقافي والمعرفي.. موجّه إلى الغرباء في أوطانهم.. إلى الكتّاب والأدباء والمفكرين والمثقفين الأحرار، الذين يحملون أفكارًا وقناعات مستنيرة جميلة مرنة تقدميّة متسامحة واسعة الآفاق، تتعارض كلّها أو جلّها أو نسبة مرتفعة منها مع كثير من الأفكار والقناعات الدوغمائية المتنطعة المتحجرة السائدة في مجتمعاتهم، أو مع كثير من «العادات والتقاليد» والموروثات الاجتماعية البالية المسيطرة، الموغلة فبادّعاء وتصنّع وتخيّل المثاليات والكماليات والجماليات والإيجابيات المختلفة، وهي أبعد ما تكون عن ذلك، بل أقرب ما تكون إلى الضد والنقيض، أي إلى النقص والقبح والسلبية والخطأ والخلل والزلل.. أو معهما؛ أي تتعارض أطروحاتهم أو يتعارض كثير منها مع (الأفكار المتطرفة) من ناحية، ومع (العادات والموروثات السلبية) أو التي يرونها سلبية من ناحية ثانية.
لقد عاشت كثير من المجتمعات العربية عامة والخليجية على وجه الخصوص عقوداً بل قرونًا طويلة من الزمن وهي ترزح تحت وطأة التلقين الأجوف الأعمى، والتغييب العقلي الرهيب، والإرهاب الفكري العنيف الذي قلّما شهد له التاريخ مثيلاً في المجتمعات الأخرى على مرّ العصور.
وليس من السهل تخليص المجتمع المنغمس في تلك الحالة من الآثار السلبية والتبعات المتراكمة المترتبة عليها في يوم أو أيام أو شهور أو سنوات قليلة.. الأمر أكثر تعقيدًا ممًا يتصوره البعض، ويحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد والمثابرة.. وبالتالي فإن الكاتب الذي يهدف من طرحه إلى ذلك التخليص، ويسعى بقلمه إلى تغيير هذا الواقع المرّ المظلم واجتثاثه من جذوره، واستبداله بواقع حديث يصعد فيه الإنسان إلى أسمى درجات المدنية والتحضّر، وأرفع منازل حرية العقل والإرادة الإنسانية والاختيار المحض في كل النواحي.. إن هذا الكاتب الذي يعمل على ذلك.. الذي يبذل كلَّ ما بوسعه للمساهمة في الخروج بعقل الفرد من غياهب الوصاية ودهاليز الإقصاء إلى أجواء الثقافة العليلة، التي تتنفس فيها الأذهان أكسجين المعرفة النقي بلا قيود ولا حدود.. إن الكاتب الساعي لتحقيق ذلك المطلب النفيس، يحتاج إلى اختيار جلسائه وأماكن جلوسه وحديثه بعناية وحذر بالغين، حتى ينجح ويُنتج في ظل استقرار وارتياح نفسي كامل، وحتى لا تتعرض رسالته للتشويه والإفساد والتخريب والضرر.
إنه لمن الصعب جدًا إن لم يكن من شبه المستحيل أو المستحيل نجاح كاتب أو مثقف أو أديب أو مفكر ما، يحمل رسالة ما، تتعارض كلُّ أفكارها أو جلّها أو كثير منها مع المنظومة الفكرية السائدة في مجتمع مبرمج مؤدلج لم يتعوّد كثير من أفراده على النقاش الحضاري الموضوعي مع المختلفين معهم في الآراء ووجهات النظر.
من الصعب جدًا نجاحه في مهمته، وهو يخالط المؤدلجين المتعصّبين لما تمّت أدلجتهم عليه بصورة عجيبة تجعلهم لا يلتزمون بأبسط أبجديات أدب الحوار، بل يبتعدون عنها عمدًا لا جهلاً في كثير من الأحيان!.
كم هو ضروري ومتحتم جدًا -من وجهة نظري- في هذه المرحلة تحديدًا أن يبتعد الكاتب التقدميُّ الانفتاحي الانعتاقي النهضوي الحداثي المستنير عن المهاترات والملاسنات والصياحات المتخلفة التي تحدث دائمًا في اللقاءات الفوضوية مع العامة الدهماء والرعاع.. يجب عليه أن لا ينخرط معهم إلا في حدود ضيقة وبضوابط صارمة وفي المناشط البعيدة عن فكره ورسالته فقط.. يجب عليه عدم السماح لهم بالعويل الجماعيِّ المباشر ضدّه بلا ضوابط؛ لأن ذلك سيشرع أمام السفهاء والجهلة الأتباع -بتحريض من الرموز المتبوعة المتطرفة- أبوابَ انتقاص رسالته السامية، وتعكير مزاجه وتكدير مياه ينابيعه الصافية العذبة!.
هم كثرة ونحن قلّة، والكثرة تغلب الشجاعة في كلِّ شيء، والتأثير عليهم بهدوء وطول نفس عبر الكتابة لهم فقط، أفضل -في نظري- كثيرًا من المواجهات والمصادمات المباشرة في المجالس والتجمعات التي لا تعرف إلا اللغة الضوضائية الغوغائية بكل لهجاتها.. لهجات الشخصنة والوعيد والتهديد والتحريض والصراخ في وجه كلِّ من يختلف معهم في مساره الفكري ونظرته للأمور وقراءته لرؤاهم ومرتكزاتها!.
الإنسان بشكل عام، إما أن يكون منزوياً منطوياً عن الناس.. أو أن يكون منضوياً بقوة تحت اللواء الاجتماعي الأبرز، منتميًا للنظام الفكري السائد المألوف، مقتنعًا به أو بأغلب أفكاره.. أو أن يقف في المنتصف الوسط بين الانزوائية والانضوائية، أي أنه يتواصل بقوة مع الناس أحياناً، وينقطع أو يتواصل معهم باعتدال في أحيان أخرى.. وتختلف أحوال الناس في هذا الموضوع باختلاف ظروفهم وأعمالهم وقناعاتهم ومؤهلاتهم وتجاربهم ومعتقداتهم وأهدافهم وأرصدتهم الثقافية المعرفية.
ما يهمني في هذه المقالة هو صاحب القلم كما أسلفتُ، فهو إما أن يكون حاملاً لأفكار وقناعات تتفق مع غالب قناعات الناس في مجتمعه، وهنا يكون الانضواء بقوة تحت لواء المنظومة الفكرية السائدة أفضل له لتمرير أفكاره ووصول آرائه لبني جلدته، أو أن تكون أفكاره بين التوافق والتنافر مع المألوف المسيطر، وهنا يكون الموقف الوسط أنسب له في رأيي، فيشارك معهم ويخالطهم بالقدر المعقول المناسب لحالته، أو -وهذا ما يعنينا- أن يكون حاملاً لقناعات يختلف معها ويرفضها الكثيرون وتتفق معها قلّة من أبناء مجتمعه، وهنا تكون الانزوائية أو الاعتزالية -إن صح التعبير- واختيار الجلساء والمخالطين بحذر أكمل وأسلم له، بل وأفضل لإيصال وجهات نظره وانتصارها وانتشارها.
اكتبوا لهم في الصحف والمجلات الورقية والإلكترونية، وأصدروا لهم المؤلفات والمنشورات، وغردوا لهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.. وتجنبوا أو أجلوا اللقاءات والمواجهات المباشرة معهم، حتى يحين الوقت المناسب، الذي قد يكون قريبًا إن شاء الله، في ظل هذا التصاعد الملحوظ لسقف الحريات في مجتمعاتنا.
يقال: إن أحد فلاسفة اليونان الأوائل دخل في حالة من الكآبة والحزن الشديد بعد أن شاهد نهاية سقراط، فقرر أن لا يحتك بالناس كثيراً وأن لا يتحدث إليهم مباشرة، وأن يكون تواصله معهم بالكتابة فقط.
وفي الختام أحب أن أشير إلى نقطة هامة، وهي أن الإشكالية في احتكاك حملة الأقلام المنفتحة الحرّة بالعامة المبرمجين على رفض التجديد والتغيير تكون أكثر سلبية وضرراً وخطرًا إذا كان الاحتكاك مصوّرًا أو موثقاً بأيّة وسيلة تسجيل صوتية أو مرئية؛ لأن الانعكاسات السلبية لذلك على الأفكار التنويرية والمسيرة التقدمية أشد وأقوى، لسهولة تداول وانتشار المواد المسجّلة في هذا العصر، ولكثرة المبدعين في التلاعب بتلك المواد وتحريفها وتشويهها، والعزف بها على أوتار العواطف الجياشة للبسطاء؛ وهذا ما يفقد تلك القناعات كثيرًا من وهجها وجمالها وقيمتها ومصداقيتها وإيجابيتها.. وأكبر الأمثلة على ذلك هو ظهور بعض الأصدقاء والزملاء الأعزاء في قنوات ومحطات متطرّفة عُرفت بعدم الحيادية، والترصد والتصيّد للمختلف في الرأي مع ملاكها وأتباعهم ومن يوجههم ويسيطر عليهم.
لقد نجحتْ -مثلاً- بعض الفضائيات الفاقدة للمهنية والمصداقية والموضوعية.. نجحت نجاحًا باهرًا -للأسف- في الإيقاع بكثير من الرفاق والأصحاب بحيل ماكرة.. واستخدمت في سبيل ذلك النجاح المزيّف كلَّ ما يمكن تصوره من الأساليب الإعلامية اللاأخلاقية الوضيعة، كعدم إتاحة الفرصة الكاملة للمختلف مع توجهها، أو إعطاء من أحضروهم لمناقشته والحوار المزعوم معه من الوقت والدعم أكثر مما يعطونه، أو الترتيب المكشوف المسبق قبل الحلقة لإسقاطه في فخ أو فخاخ دنيئة بأية وسيلة من الوسائل الرخيصة!.
وأستثني من هذا الموضوع بلا تردد المجالس والملتقيات والقنوات والأماكن العامة أو الخاصة القليلة في مجتمعنا، التي تراعي أدبيات الحوار وتلتزم بأبجديات النقاش السوي، مهما اختلف الكاتب مع توجه أصحابها والحاضرين لها؛ فلا مانع من التواصل في مثل هذه الأماكن والملتقيات والمنابر الإعلامية المحترمة مع بعض المختلفين عنّا أو معنا في الرؤى والمنهج والطرح أو في أي شيء، مع ضرورةالانتباه والفطنة، والتفريق بين الأماكن المناسبة وغيرها، وعدم الاندفاع إلا بكياسة، وبقدر المصلحة والفائدة المتوقعة.