ما كان أحرانا ونحن نشارك العالم بإحياء اليوم العالمي للقصة الذي يصادف الرابع عشر من شهر فبراير من كل عام ونقيم الفعاليات، والمناشط المنبرية أن نتذكر أن نحتفي في هذا اليوم أيضا برواد القصة لدينا، من الذين أبدعوا في هذا الفن وأخلصوا له، وسخروا جل طاقاتهم من أجل النهوض به في عصر يعاني فيه فن القصة من عزوف النقاد عن دراسته ويشهد زحف الكثير من كتابه نحو ساحل الرواية بعد تخلي بعضهم عنه.
ويعد القاص جبير المليحان أحد رواد هذا الفن الذي كان جديراً بالاحتفاء به وبمنجزه في هذا اليوم من قبل مؤسساتنا الثقافية وبخاصة نادي الدمام الأدبي الذي تولى رئاسته عدة سنوات وفرع جمعية الثقافة والفنون، نظيرا لما قدم للقصة من خدمات أسهمت في تكريسها وتطورها. وباعتباره أحد روادها المجددين حيث انطلق مشواره الإبداعي الطويل في سبعينيات القرن الماضي، ويعد على المستوى المحلي أول من كتب في فن القصة القصيرة جدا أو كما يسميها المليحان «القصة الصغيرة»، التي باتت تلاقي في السنوات الأخيرة رواجا واسعا على مستوى الكتابة والتلقي في مشهدنا المحلي والعربي.
وقد كتب المليحان القادم من قرية قصر العشروات في مدينة حائل إلى مدينة الدمام مروراً بالمنامة «القصة الصغيرة» كما يسميها، منذ وقت مبكر، ونشرت في ملحق المربد الأدبي الصادر عن جريدة اليوم بالدمام، عام 1973 م حيث نشر إحدى عشرة قصة صغيرة تحت عنوان: «الطفل يريده: اللون الأبيض».
تلاها استراحة محارب قصيرة عن الكتابة، وطويلاً عن النشر عاد بعدها بنشر مجموعات من القصص الصغيرة في مجلة «النص الجديد» والصحف السعودية: «اليوم، الجزيرة، الرياضي». وللمليحان أيضا إسهاماته في كتابة قصة الطفل. ويصف المليحان رائد القصة القصيرة جداً في المملكة هذا النوع من السرد في أحد حواراته منذ سنوات بأنها: «كنفس عميق جداً، ليست حكمة، و لا لغزاً، إنها شفافة وعميقة كالشعر، ولكنها فاجعة مثله، وبها لوعة وبكاء وحزن، إنها ألم في القلب: أكبر من الوخز، وأصغر من عملية جراحية. فنتازيتها في كونها فاجعة، صغيرة، مكثفة، وغير متوقعة، ولكنها اختصاراً كبيراً لحياة ما».
وقد عبر عن حبه وشغفه بفن القصة عملياً من خلال تأسيس صرح يعنى بها وبكتابها منذ نحو أربعة عشر عاما أطلق عليه مسمى «شبكة القصة العربية التي تتضمن عدة برامج ثقافية منها: موقع القصة العربية في العام 2001 «الموقع الأول» الذي خصصه لنشر النصوص القصصية والتعريف بكتابها، والحوار حولها، كما أنشأ منتدى القصة العربية الحواري عام 2003 «الموقع الثاني»، المهتم بقضايا الأدب والثقافة، وفي العام 2010 دشن موقع جريدة القصة العربية، الخاصة بأخبار الثقافة والأدب والفن الجاد، متحملا الأعباء المادية وأعباء تهيئة النصوص، وتنسيقها، وتصحيحها لغوياً وإملائياً، وإجازتها.
كما عبر عن اهتمامه أيضا بهذا الفن بطباعة أكثر من مؤلف تضمنت عدداً من النصوص التي تم نشرها في موقع القصة، وقد تم إصدار الكتاب الورقي الأول بعنوان «قصص من السعودية»، فيما حمل الكتاب الثاني عنوان «قصص عربية». وقد صدر للمليحان في وقت متأخر مقارنة بتاريخ انطلاقة تجربته القصصية، عدة مجموعات هي: «الوجه الذي من ماء» عن النادي الأدبي بحائل في عام 2008م، و»قصص صغيرة» صدرت عن النادي الأدبي بالجوف في عام 2009م، وجاءت مجموعته الأخيرة بعنوان «ج ي م»، الصادرة عن دار «أثر» في عام 2012م.
ويعد المليحان مبدعا مزدوج الإبداع، فقد جرب كتابة الشعر في مطلع حياته، كما جرب الرسم الزيتي، ومن ثم غرق في هوى السرد القصصي بعد أن استحوذ عليه وجذبه إلى ساحله، فأخلص له، وابتكر، وأبدع، وبرع في بناء نصوص ذات بنية سردية مختلفة عن السائد، متجافية عن نمطية التصوير الواقعي، مكتنزة بالمعاني والدلالات، اختطت لها أسلوبا حداثيا مجنحاً، يزاوج بين الواقع والحلم. تتجلى من خلاله نظرته الفنية المأخوذة بالكون، في رسم أحداث فنتازية تنحو نحو شاعرية مفرطة، وخيال جامح، مصبوغ بروح الطفولة ومشاغباتها، وتنهض النصوص على بنية فلسفية مطعمة برمزية مستفزة تشرع بوابة الأسئلة، وتتكشف عن فكر مهموم بالإنسان وقضاياه، آلمه وأحلامه،حيث المفردة نابضة حية ذات لون خاص ورائحة كذلك، وتنبض نصوص المليحان بجماليات العلاقة بالأرض والطبيعة والفضاء الرحب، إذ تطالعنا نصوص له تحمل عناوين «النخيل التي ليست في الحدائق»، و»شجر الأرض»، و»بلح القرى»، و»الوردة»، وتتردد بين ثنايا النصوص مفردة الحياة «الماء»، مشيعة الأمل بفرح قادم، وكأنها بذلك تحاول بث بعض التوازن في مفاصل نصوص يغلب عليها طابع الوجد والحزن الوجودي.