عرضت في مقالة قبل أسبوعين لمفهوم الجنون في القرآن الكريم، وفي هذه المقالة الجديدة أقف على مسألة أخرى مهمةٍ لا بدّ من الوقوف عليها لاستكمال مفهوم الجنون كما بدا لي في قراءتي لهذا الكتاب العظيم، وهي سياقات الوصف بالجنون. ومن ثَمّ فاستحضار تلك المقالة المتقدمة مهم جدًّا لمن أراد الوقوف على مفهوم الجنون في القرآن الكريم، وهو مفهوم يحتاج إلى تحرير وبيان للكشف عنه.
جاءت صفة الجنون في عشرين آيةً في أربع عشرة سورة من القرآن الكريم، هذا بعد تجاوز الآيات التي اختلف المفسرون في تأويلها فخرجها بعضهم على معنى غير الجنون، مثل قوله تعالى: {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ}، وقوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ}، فقد ساق أبو الحسن الماوردي في قوله {وسُعُرٍ} خمسة تأويلات، وهي: الجنون، والعناء، والافتراق، والتيه، ووقود النار. إلا أن ذلك التواتر لا يعني أن الجنون «غدا من الموضوعات المركزية، التي تُطرق لذاتها فتتناول بالعرض والتحليل وتستقصى من جميع جوانبها ثم تقوم وتقيّد بالقيود وتضبط بالأحكام»- كما يقول د. الخصخوصي- غير أننا نلحظ أن موضوع الجنون جاء في معرضين:
أحدهما: معرض الادعاء والاتهام؛ حكى فيه القرآن الكريم على ألسنة أعداء الرسل من أقوامهم أنهم رموهم بالجنون.
والمعرض الثاني: أتى فيه الجنون في سياق نفي هذه التهمة عن الرسل وتبرئتهم منها.
ولم ينفرد الرسول الكريم محمد عليه الصلاة والسلام بهذه التهمة ( الجنون ) كما لم تكن قريشٌ بدعًا من الأمم في ذلك الاتهام، فقد اُتهم كل من نوح وموسى. والقرآن الكريم يذكر أن جميع الأمم المكذبة بدعوة الرسل، قد وصفت رسلها بمثل ذلك، حتى إنه ليخيل للسامع أنّ الأمم قد تواطأت على ذلك، وأن بعضهم أوصى بعضًا. وهو أمر يدعو إلى العجب والحيرة، ولاسيما أنَّ تلك الأمم لم يجمعها زمان ولا مكان واحد؛ فكيف تواصوا به واتفقوا عليه؟! لكن حين لم يجمعهم الزمان والمكان؛ جمعهم جميعًا تجاوز حدِّ الاعتدال والطغيان. والطغيان تجاوز الحدّ، ولا يكون الطغيان إلا مع القوة والنفوذ (السلطة)! وكثيرًا ما تغري القوة والنفوذ أصحابهما والمنتفعين بهما بمدّ سلطتهم؛ عبر استقطاب الأشياء إلى النظام الذي يوفر لهم هذه السلطة ويسوغ هيمنتها؛ أو يدفعون به عنوة لابتلاع كل شيء، وتوسيع هيمنته إلى آفاق واسعة فيها تجاوز لاعتبارات الحرية وحقوق الآخرين، قال تعالى:
(كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ¤ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ).
والمجتمعات المكذّبة حين تصف الرسل بهذا فهي إنما تروم تقويض دعوتهم، وهدمها من أساسها؛ إذ النبوة تربط وجوب التكليف بـ(العقل) المدرك لمراد الله تعالى وتشريعه، والقادر على تنزيله في الواقع. وبما أن (النبوة) نفسها درجة عليا من درجات التلقي: فهمًا وتكليفًا وتبليغًا؛ تحتاج إلى قوة البدن، وقوة النفس، وقوة الإرادة، وزيادة العلم، فإنَّ حاجتها إلى صحيح العقل آكد، ولذلك قرن القرآن الكريم بين قوة السند في تلقي الوحي عن الله بنفي الجنون عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم في سياق واحد، فقال تعالى:
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ¤ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ¤ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ¤ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ¤ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ¤ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ¤ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ¤ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ¤ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ¤ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ¤ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ¤}.
قال الشيخ عطية محمد سالم- رحمه الله: «كان القرآن الذي جاء به مصونًا من أن يتسلط أحد عليه فيغيره، ومن أن يغيره الذي جاء به، وهذا كله بمثابة الترجمة لسند تلقي القرآن الكريم. وقوله:
{وما صاحبكم بمجنون}
بيان لتتمة السند، حيث قال: {ولقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين} فنفى عنه- صلى الله عليه وسلم- نقص التلقي بنفي آفة الجنون، فهو في كمال العقل وقوة الإدراك، ومن قبل أثبت له كمال الخلق: {وإنك لعلى خلق عظيم}. وأثبت له اللقيا، فلم يلتبس عليه جبريل بغيره، وهي أعلى درجات السند، فاجتمع له - صلى الله عليه وسلم - الكمال الخلقي والكمال الخلقي- بضم الخاء وكسرها- أي: الكمال حسًّا ومعنى، ثم نفى عنه التهمة بأن يضن بشيء مما أرسل به مع نفاسته، وعلو منزلته، وجليل علومه، وأنه كلام رب العالمين.... وإلا فأين تذهبون؟! أين تسيرون عنه، بعد أن ثبت لكم سنده ومصدره؟. ونظير هذا السند في تمجيد القرآن وإثبات إتيانه من الله، قوله تعالى في أول سورة (النجم):
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى}
وبما أن النبوة صلةٌ بإله يشرع وبلاغٌ عنه؛ فإن اتهام الأنبياء بالجنون، يحمل في ذاته رفضًا لكون الوحي من جهة عليا سماوية، لها الحق في أن تقول؛ فتهدم، وتُغيِّر، وتشرِّعَ، وتعيد بناء الحقيقة في المجتمع، وصياغة نظمه، ومعارفه وتعيين مصادرها. ووصفُ النبوة بالجنون يقصرها على كونها هذاءات وضلالات، أو وحيًا داخليًّا لا حقيقة له، أو حديثًا داخليًّا مصطنعًا في أسهل الأوصاف. وهذا يقتضي الطعن في الحقائق التي جاءت بها. فالقدح في كمال العقل: قدح في الخبر، كما هو قدح في التلقي نفسه، وإلغاء للنبوة.
ولعلّ ما سوّغ هذا الاتهام وجعله مقبولا لدى كثير من الناس- على الرغم من أن كلام المجانين وسلوكهم مضطرب؛ أو بعبارة العراف اليماني:» إن كلام المجانين متفاوت غير مستقيم، وما يشبه ابن أخيك المجانين بوجه من الوجوه»- أن الأنبياء عليهم السلام خالفوا مجتمعاتهم في عاداتهم، والمجنون عند الناس من يسمع ويسب ويرمي ويخرق الثوب، أو من يخالفهم في عاداتهم فيجيء بما ينكرون، ولذلك سمت الأمم الرسلَ مجانين لأنهم شقوا عصاهم فنابذوهم وأتوا بخلاف ما هم فيه.
قال ابن القيم: «وأكثر الخلق إنما يكونون من الجانب الآخر ولاسيما إذا قويت الرغبة والرهبة، فهناك لا تكاد تجد أحدًا في الجانب الذي فيه الله ورسوله بل يعده الناس ناقص العقل سيء الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون. وذلك من مواريث أعداء الرسل فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب، وكان الناس جميعًا في شق وجانب». فالأنبياء – عليهم السلام، عند أعدائهم - ضعفاء العقول: انحرفوا عن حدِّ الاستواء المعروف في مجتمعاتهم، الذي ينبغي أن يُؤثر، واختاروا ما لا يُختار، ورغبوا إلى ما لا يُرغب فيه. وهنا تتداخل الصورتان: المرضية للجنون والصورة الاجتماعية- الثقافية، وتلتبسان، فتأخذ الثانية أحكام الأولى وتسقط صفات الأولى على الثانية!
وتأمل ما يحكيه القرآن الكريم عن اضطراب الأمم في وصف الرسل يؤكد هذا الفهم؛ إذ يشير إلى اعتراف كبرائهم وسادتهم بوجود قدرات غير عادية لدى هؤلاء (الأنبياء عليهم السلام) تؤثر وتغير! واجتهدوا في الكشف عن أسبابها من خلال خبراتهم ومعارفهم، التي تحفظ عليهم أنظمتهم ومكاسبهم. فخرّجوها على ما ألفه الناس من وجوه تصرف عن اعتقاد النبوة، فالآية -نفسها- تخبر عن انقسام الأمم حيال وصف المرسلين إلى وصفين: فتارة تصفهم بالسحر، وتارة تصفهم بالجنون! وذلك ينبئ عن رؤية ذات مستويين لواقعة النبوة والأنبياء، تستشعرها تلك الأمم تجاه النبوة وخطابها:
في أحد المستويات: ترمق النبي نفسه وأقواله وسلوكه، وما يبث من قيم، وما يُشرِّع من دين (خطاب النبوة)؛ فجاء الوصف بـ»الجنون» مطابقًا لمستوى النظر- بحسب زعمهم..
وفي المستوى الآخر: تهتم بقدرات الأنبياء ونتائجها (أثر الخطاب النبوي)، فجاء وصف النبوة بالسحر والنبي بالساحر. والسحر: اسم لما خفي سببه، وصعب استنباطه على أكثر العقول. وحقيقته: التأثير في الناس على نحوٍ خفي؛ فيسحر العقول، وتنقاد إليه النفوس بخدعة وتعجب واستحسان، فتميل إلى الإصغاء إلى الأقوال والأفعال الصادرة عن الساحر.