Saturday 21/06/2014 Issue 443 السبت 23 ,شعبان 1435 العدد

علاء الأسواني: بروفايل غير تبجيلي (3-4)

الناقد الهندي بانكاج ميشرا يسلخ الأسواني بقسوة في «نيويورك تايمز»

نواصل ترجمتنا لبروفايل الناقد الهندي بانكاج ميشرا عن الروائي العالمي د. علاء الأسواني:

الأسواني يبدو بمظهر جذاب وعصري ولطيف.. ولكن ذلك القناع المتحضر يخفي وراءه آراء سياسية عنيفة وحماسية؛ فخلال مهرجان أدبي في تولوز بفرنسا، تحدى الأسواني الكاتب الإسرائيلي البارز عاموس عوز حول موضوع فلسطيني تاريخي.. قال لي: «كنت الكاتب العربي الوحيد في المهرجان» وأضاف: «كان من واجبي أن أتكلم وأصحح معلوماته.. كان يجلس بقربي باحترام شديد.. ثم تصافحنا بعد انتهاء المناسبة، ولكن كان لا بد لي من قول الحقيقة».

في وقت سابق من نفس اليوم، رأيته في مكتبة في وسط لندن يجيب ببرود على أسئلة جمهور البريطاني غالبه أبيض. وبأدب ولكن بحزم رفض الإجابة عن سؤال عما إذا كان قرأ كتاباً صدر حديثاً يناقش «جنون العرب»، حيث علّق: «لا يمكنك أن تعمل مثل هذا التعميم عن العرب».. وأضاف: «مصر مثلاً تختلف كثيراً عن (...)»، وبدا غير راغب في السماح لجعل روايته تحمل عبء التمثيل الدقيق للواقع، وهو ما تعوده الجمهور الغربي عند قراءة روايات «غير غربية».

وبعدما ضُغط عليه ليعلق عن علاقة روايته بالواقع المصري المعاصر، قال: «خيالي لا يمثّل جميع مصر. أنا لست عالم اجتماع».

ومع ذلك، فإن قليلاً من المصريين الذين قرأوا «عمارة يعقوبيان» قد يفشلون في التعرف على واقعهم فيها - التعذيب، على سبيل المثال، والذي يصوره الأسواني بتفصيل دقيق يستخدم بشكل روتيني من قبل قوات الأمن ضد الإسلامويين المشتبه بهم، ونشطاء العمال، وحتى المدونين والصحفيين ومن هم من الطبقة الوسطى.. وفي الرواية، معظم تاريخ قاهرة القرن العشرين لخصتها تقلبات وتغيرات البناية نفسها، والتي لا يزال مبناها الأصلي الجميل معمارياً موجوداً في وسط القاهرة الذابل.. البرجوازية الاستعمارية ممثلة في الباشاوات ومليونيرات القطن وأجانب عاشوا هناك خلال هيمنة بريطانيا على مصر.. وبعد ثورة 1952، سكن شققها ضباط الجيش الذين كانوا - مثل عبد الناصر - من أدنى الطبقة الوسطى أو من خلفية زراعية.. وخلال السبعينيات عندما بدأ السادات ما يُسمى «الانفتاح الاقتصادي»، غادروها ليعيشوا في ضواحي فخمة ومسيجة، في حين أن المهاجرين من الريف انتقلوا إلى غرف صغيرة جدّاً ملحقة على السطوح.

نقد مغلف بمديح..

والسياسة فوق الأدب

الروائي والناقد اللبناني إلياس خوري ينسب أهمية الأسواني كروائي إلى حقيقة «أنه أعاد اكتشاف الرواية «الشعبية» المصرية التي ماتت؛ فالأدب لا يمكن أن يوجد بدون مستويات مختلفة من الأعمال الأدبية».. ولكن هذا الثناء الظاهري يبدو كأنه - نوعاً ما - يحتمل نقداً حاداً وماكراً في جوهره، فقد وَجدتُ في القاهرة الكثير من النقاد والمثقفين الذين يشككون في جودة أعمال الأسواني، ولكن لأنهم يشاركونه في آرائه السياسية، لا يودون الجهر بنقدهم لمستوى أعماله.

أسلوب بسيط ومباشر .. والتبرير: أكتب للناس العاديين!

ولكن الأسواني يعلم عن هذه الآراء النقدية اللاذعة، حيث قال لي: «أنا أكتب للناس العاديين»، وأضاف: «أريد أن يفهم كل شخص كتبي.. مشكلة الأدب العربي أنه نسي رواية القصص وضل طريقه في التجريب.. هناك روايات كثيرة جداً تبدأ بعبارة مثل: عدت إلى منزلي لأجد زوجتي تمارس الجنس مع صرصار».. ذكر أنه يعتبر أرنست همنغواي مصدر إلهام رئيس له وأضاف: «النثر صعب جداً، ولكن هناك الكثير يجري تحت السطح.. الناس يعتقدون أن من السهل أن الكتابة بأسلوب بسيط.. كلا، هذا ليس سهلاً، الأكثر سهولة أن تكتب بطريقة لا يفهمها أحد».

النجاح قد يكون جعل الأسواني أكثر ثقة بأسلوبه الجمالي البسيط والمرغوب شعبياً.. ولكن معظم ثقة وتأثير أسلوب الأسواني ككاتب وناقد ثقافي يبدو أنه ينبع من إيمانه بـ» الخصوصية المصرية»: أي فكرة أن مصر التي لديها طبقات حضارية عديدة (فرعونية ورومانية وإسلامية ومملوكية وعثمانية) والتي بدأت في التحديث في وقت مبكر من القرن التاسع عشر، ولكن كانت تعوقها ديكتاتوريات متعاقبة من تحقيق قدرها كواحدة من أعظم أمم العالم.

بعد ظهر ذات يوم في عيادة الأسنان الخاصة به، قال لي الأسواني «هذا البلد يملك مواهب وقدرات هائلة، ونستحق أن يكون وضعنا أفضل بكثير.. وأنا متفائل بأننا سنكون.. ولكن، كما تعلم، فإن مشكلتنا الكبرى هي أن الديكتاتور لا يحترم مواطنيه.. فإذا استوليت على السلطة وأنت تعرف أن الناس لا يستطيعون مقاومتك والتغلب عليك، فلا يمكن أن يحترم الديكتاتور الناس، ولذلك تجرأ رئيس وزرائنا ذات مرة قائلاً: الشعب المصري ليس جاهزاً للديمقراطية ويحتاج 100 سنة إضافية ليستعد لها.. ولذلك كتبت في عمودي أن «رئيس وزرائنا لا يعرف تاريخ بلده.. لقد كان لدينا أول برلمان في العالم العربي، وربما في العالم الثالث.. وفي عشرينيات القرن المنصرم، جرت انتخابات برلمانية خسر فيها رئيس الوزراء مقعده، لأنها كانت انتخابات نزيهة».

بعض عواطف وحماس الأسواني لضياع قيمة مصر قد يكون نتيجة تأثير والده عباس الأسواني، وهو كاتب معروف في قاهرة ما بعد 1952، والذي كان جزءاً من الوهج الثقافي الذي جعل من تلك المدينة عاصمة فعلية لجميع العالم العربي.. يقول: «والدي ينتمي إلى الجيل المتعلم في الأربعينيات وهو الجيل الذي كافح ضد البريطانيين.. ولذلك، كان هناك باستمرار في منزلنا رسامون وكتّاب ومخرجو أفلام يناقشون كل شيء عن مصر بحماس شديد كما لو كانت تلك مشاكلهم الشخصية.. وكنا جميعاً ليبراليين.. فمن أراد أن يصلي، صلى.. ومن أراد أن يشرب، شرب. ومن أراد الصوم، صام».

رؤية الأسواني لمصر علمانية وديمقراطية تبدو راسخة الجذور في ذكرياته لتنشئة إسلامية ليبرالية.. ولد في عام 1957، أي بعد عام من احتلال إسرائيل لفترة وجيزة شبه جزيرة سيناء خلال حرب السويس.. الأسواني تعلم في مدرسة فرنسية، والتي كانت تضم - كما قال - طلاباً وأساتذة يهوداً.. وأشار الأسواني «يجب أن تعلم أن حزب الوفد العلماني الصميم قاد نضالنا من أجل الاستقلال من بريطانيا».. وأضاف: «بالنسبة لحزب الوفد لم يكن هناك مسلمون أو يهود، بل فقط مواطنون».. ولكن من المعروف أن نظام عبد الناصر طرد العديد من «المصريين غير المسلمين» وصادر ممتلكاتهم، فمصر بالكاد توجد فيها جالية يهودية اليوم.. حنين الأسواني الحماسي لعصر توهج مصر الثقافي في الخمسينيات والستينيات يجعله يغالي ليس فقط حول البيئة الليبرالية للبلد تحت حكم ناصر، بل وأيضاً يبالغ في قوة المعارضة غير الإسلامية اليوم.. ويؤكد الأسواني: «لو أجريت انتخابات حرة ونزيهة الآن، فإن الأحزاب الليبرالية واليسارية ستحصل على نفس القدر من المقاعد للإخوان المسلمين».. ولكن تقدير الأسواني متفائل في أحسن الأحوال.

يدّعي الأسواني أن التوهج الثقافي لعصر ما بعد الاستعمار الذي خلقه اليسار العلماني في مصر بقي قوياً حتى منتصف السبعينيات، عندما انقلب أنور السادات على سياسات عبد الناصر الاشتراكية الموالية للسوفييت متوجهاً نحو الولايات المتحدة.. ويشير الأسواني: «عندما دخلت جامعة القاهرة في عام 1976، كان اليسار قوياً للغاية ومسيطراً، ولهذا شجع السادات الإخوان المسلمين ليقفوا ضدنا، حيث حظر جميع الأحزاب السياسية في الجامعة باستثناء جماعة الإخوان، وهذا شيء لا يفهمه الناس في أمريكا، أي الطريقة التي يستخدم الديكتاتور فيها الإسلامويين ضد الليبراليين و»الاشتراكيين الديموقراطيين».. وكان السيد مبارك يستخدم التخويف من الإخوان المسلمين لخداع الأمريكيين والليبراليين ليحافظ على السلطة».

عندما اغتيل السادات في عام 1981 بواسطة إسلاميين معارضين للصلح مع إسرائيل، كان الأسواني طبيباً مقيماً في قسم جراحة الفم في جامعة القاهرة، وهي وظيفة مرموقة في مصر، ولذلك عندما استقال منها اعتبره الجميع «مجنوناً»، ومن ضمنهم زوجته في ذلك الوقت التي كانت تدرس طب الأسنان أيضاً (الزواج انهار في عام 1987، ولكن الأسواني يتبنى موقفاً محافظاً تقليدياً بخصوص زواجه الثاني من مُحاسبة في عام 1993).. يقول الأسواني: « كنت أريد أن أصبح كاتباً وأعطي الأولوية للكتابة، ولم يكن ذلك ممكناً وأنا أعمل في وظيفة، ولكن الناس هنا لا تفهم ذلك، حيث الكتابة لا تدر دخلاً جيداً للعيش، وحتى نجيب محفوظ كان موظفاً حكومياً طوال حياته».

سافر الأسواني في منحة عام 1984 للحصول على ماجستير في طب الأسنان من جامعة إلينوي في شيكاغو.. يقول إن تلك الثلاث سنوات للحصول على درجة الماجستير في الولايات المتحدة هي أهم فترة في حياته.. ويعترف بأنه كان لديه رؤية كاريكاتورية سطحية عن أمريكا، لكن أسفاره في أمريكا وحبه للاستطلاع والاكتشافات غيّرت رأيه السطحي، فمن بين أمور أخرى أبهرته: اكتشاف كنيسة للشواذ جنسياً، ومنظمة حقوق مدنية للزنوج.. ولهذا، اقتنع بأن هناك أموراً مهمة في أمريكا بخلاف ما يُسمى ممارساتها «الإمبريالية» في العالم العربي.

ضرورة وجود تجربة أمريكية لمعرفة لطف وعطف الشعب الأمريكي

يقول الأسواني: «معظم العرب العاديين يرون الأميركيين كغزاة وكمحتلين، يأتون لسرقة النفط».. ويضيف: «بالنسبة لليبراليين مثلنا في مصر من الذين يكرهون هذه الديكتاتوريات الموالية للولايات المتحدة ويريدون الديموقراطية، تعتبر أمريكا هي أكبر مشكلة.. إنها نفس المكان الذي تأتي منه الديمقراطية وكذلك الإمبريالية، فكيف نستطيع أخذ ما نريد من الغرب؟ بالنسبة لي، جورج بوش ليس هو الغرب، بل هو همنغواي وشكسبير.. ولكنني كنت محظوظاً جداً.. لقد أتيحت لي الفرصة للدراسة في أميركا وتعرفت على أصدقاء وصديقات أمريكان.. لا بد أن يكون لدى الشخص «تجربة أمريكية» ليعرف لطف وعطف الشعب الأمريكي، ومدى جهله التام بسياسة حكومته الخارجية».

أحد أهم أصدقاء الأسواني في شيكاغو كان بروفي سورا لجراحة الأسنان، والذي كان يعتنق أفكاراً سياسية راديكالية في الستينيات.. يقول الأسواني: «تعرفت من خلاله كيف تحولت سياسة أمريكا نحو اليمين المحافظ في الثمانينيات».. هذا البرفسور يظهر غالباً بدون مواربة في رواية «شيكاغو»، وهي رواية تدور أحداثها داخل حرم جامعي أمريكي، ورغم كون أحداثها تدور في فترة ما بعد 11 سبتمبر، فإنها تبدو بوضوح كأنها مستمدة من تجربة الأسواني نفسه كأحد الطلاب المصريين المستقلين سياسياً في شيكاغو في منتصف الثمانينيات.

الرواية، التي كانت موضوع خبر رئيس في الصفحة الأولى لجريدة اللوموند في السنة الماضية قبل أن تصبح «بست سيلر» فورا في فرنسا، وسوف تطبعها دار هاربرز كولينز الأمريكية هذا الخريف.. ويقول الأسواني: «لدي فضول كبير لمعرفة كيف سيستقبل القراء الأمريكان روائياً عربياً يكتب عن أمريكا»، ولكني أعتقد أنه قد تخيب آماله. تركيب رواية «شيكاغو» له نفس بنية المسلسلات التلفزيونية العائلية الصباحية.. وتماماً مثل «عمارة يعقوبيان» يوجد فيها عينة شخصيات مختارة بتعمد وهجاء مبطن للديكتاتورية.. الأسواني يتخم بعض شخصياته المصرية بحقد غريزي متأصل يشعر به ضد النظام المصري ورجاله، مثل طريقة تصويره لعميل المباحث في السفارة المصرية في واشنطن الذي يرعب ويخيف الطلاب المصريين، حتى يؤكدوا ولاءهم لقائدهم العظيم.

ترجمة وتقديم/ د. حمد العيسى - المغرب Hamad.aleisa@gmail.com