يقولون قديماً: ليس الميت برفيقٍ للحي! وربما عبّر عن ذلك أبو خراش الهذليّ حين علم بوفاة أخيه عروة ونجاة ابنه خراش من الموت بأعجوبة فقارن بينهما كشرّين أحدهما أخف من الآخر فقال :
دعوتُ إلهي بعد عروة إذ نجا
خراش وبعض الشر أهون من بعض
وما مالك بن الريب وعبد يغوث بن وقاص الحارثي إلا نماذج لأناس اُختزلت قصتهم في الذاكرة للتراجيديا الحزينة يموت فيها بطلا القصة وهما على بعد خطوة واحدة من الدنيا يغالبهم الموت على أنفسهم فيغلبهم عنوة فيغادرون كما غادر أسلافهم!!
ولكن بغصّة ومن لم يمت بالسيف مات بالبراميل المتفجرة!!
والموت نقيض الحياة فهما من الأضداد وبينهما مسافة هي أقرب من شراك النعل ولذلك لا يدري الإنسان ما يجري له وما يُنسج ؟ قال تعالى {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ...}.
فهل هو برزخ آخر يعيشه من قُدّر له أن يمكث تحت ركام مدفون؟! هل هي حياة تتصارع مع موت بطيء؟! ولكن البعض قد يُبعث للحياة لأن المسافة بينهما قد تكون دقائق وقد تمتد أكثر! بحيث لا تتعدى موطن قدميك وقد تصل إلى عمر مديد! فتمر ذكراها عليك بضحكة متواضعة تتحول شيئاً فشيئاً إلى قهقهة ممزوجة بانبهار عجيب أن ما زلت حياً تُرزق متفقداً أطرافك ومتحسساً يديك! هذا هو الفرق بينه وبين البرزخ الحقيقي! ولا شك أن الموت واحد وبما أنّ من تحت الركام قد يعيش ولكنه يرى الموت بعينيه ويشتم رائحته في كل لحظة في زمن الركام كله! أنفاس متقطعة وزفير يبحث عن مخرج! لتوهب له الحياة مرة أخرى!! ويكون من سعداء الحظ الذين شملتهم العناية الإلهية ولم تطمره أحجار المنزل الذي عاش فيه سنين عمره!
لا يدري وهو يمشي مطمئن في عمارة تربو على أربعة أدوار وأسوأ من ذلك أنه يقبع في الدور الأول ويعني ذلك أن الجميع فوقه وعلى رأسه ولا تحتاج الأمور إلى تراكتورات أو انتظار زلزال مدمر بدرجة سبعة ريختر حتى يتسنى له الخروج على مهل متأبطاً بضاعة بيته الثمينة كالفلسطيني الذي ينظر إلى جرافات اليهود تبتلع منزله وقد اصطحب معه ما خفّ حمله وغلا ثمنه! لا هذا ولا ذاك! فطائرات السخوي تكفي المؤونة وتفي بالغرض وما هي إلى أن يضغط الطيار بإبهامه اللعين على زر أحمر إيذاناً بانطلاق صاروخ على سطح تلك العمارة المنكوبة أو البراميل المعبأة بأنواع المتفجرات المحلية الصنع والمستوردة! قد لا يستغرق ذلك كله ارتداد طرفك! فمن السذاجة أن تحاول عبثاً أن تقنع نفسك أن الصدفة وحدها هي من ألقت تلك البراميل على سطح العمارة أو مكث الطيّار هنيهة يخّمن مخطئاً أنه في حرب مع أعداء الأمة! لأنّ اعتقاد الضحية الفطري أن أبناء وطنه الحبيب لا يملكون غلظة وحقد اليهودي صاحب الجرافات سالف الذكر! حيث قلوبهم الرقيقة تتقطر منها شآبيب الرحمة وإنما أخطأت أصابعهم الأزرار وأصاب أعينهم القذى! هكذا يحدّث نفسه! ويخاطبها ما خاطب السُّليك بن السُّلَكة ممتعظاً :
فبات لها أهلٌ خلاء فناؤهم
ومرّت بهم طيرٌ فلم يتعيفوا
يسائل نفسه متردداً أينجو أم تُزهق روحه ؟! ويكون في حواصل الطير لحماً طرياً ! وصاحبنا دفين الحجارة وصدى صوته يرتد من خراسانات إسمنتية صماء ضيقت عليه الخناق بأي ذنبٍ أكون كابن السُّلَكة؟! يُخيّرُ وليس له الخيار أيكتب له عمر جديد أم يُسحق تحت هذا الركام ويكون أثراً بعد عين؟! فينتشله من أصحاب المروءة والمارة الأعزاء ومن كان له قلب ينبض من بين جنبيه رحمة وإشفاقاً! فأدبيات القتل تسير وفق ما خُطط له ومدينة الركام تزداد أعداد الموتى تحت أنقاض الحجارة فيها بمعدل قياسي لا تستطيع مدن أخرى أن تنافس أختها في مهرجان البراميل ! والجمهور يشاهد بصمت مصفقاً بحرارة سباق الرحلة الأخيرة ومضمار الموتى يحث الأحياء على اللحاق بالركب حتى تسير قوافل الضحايا شاهدة على مأساة القرن الواحد والعشرين دون منافسة تذكر مِنْ كان قلبه خارج تغطية الحب والإنسانية والرحمة!!