احتار ذلك العاشق المتيم كيف يوصل رسالة إلى حبيبته التي كان يريد أن يبوح لها بحبه، خطرت عليه طرق غريبة؛ كأن يرمي بزجاجة في ماء البحر بها الرسالة، ولكنه وجدها غبية، وهل هناك ما يصل بين المدينة التي يقطن فيها والتي تقطن فيها حبيبته غير مياه المجاري، وهل هذه طريقة جيدة لكي يوصل عاشق رسالة إلى حبيبته عبر مياه المجاري.
امتطى ظهر سيارته، وبدأ يتمعن في لوحات المحلات التجارية إلى أن توقف أمام لوحة كتب عليها بخط أنيق في إطار من الزخرفة الأندلسية [طيور الزينة وحيوانات داجنة]، ولج المحل؛ فإذا هو أمام شاب عربي، فقال له بسرعة:
-أريد حمامة بيضاء جميلة.
رد البائع:
-هل هناك صفات خاصة تطلبها في الحمامة؟
- أريد حمامة زاجلة توصل رسالة.
حدق فيه البائع بشيء من الذهول من غرابة الطلب الذي أمضى عمره وهو لم يسمع بمثله، بعد ثوان من التحديق، قهقه البائع، وقال:
-وهل نحن في عصر الدولة العباسية؟
-أرجوك، اسمع، سأدفع لك المبلغ الذي تريده.
نظر إليه البائع نظرة خبيثة وهو ينوي الاستيلاء على كل ما في جيبه، وقال:
-حمام زاجل ليس لدي ولكن عد بعد يومين وسأوفرها لك.
ها هو ينظر إلى الحمامة الزاجلة في قفصها الجميل ويدبج رسالة رومانسية تذوب رقة، احتار ماذا يكتب في الرسالة؟ وتعسرت على قلمه الجمل، وجف نبع الكلمات المغداق في ريشته الممتلئة حبراً، الجافة تعبيراً، انتظر حتى حلول المساء، ونظر إلى القمر ليلة التمام وهيجه الغرام، ففاضت قريحته شعراً غزلياً كالماء الزلال حلاوة وطلاوة، وكتب بعدها نثراً أعذب من الشعر، فيه حرقة الوجد ولوعة الحب ونيران الغرام المضطرمة في فؤاده.
مع زقزقة الطيور معلنة بدأ يوم جديد، وإشراقة شمس شتاء دافئة حنونة، وضع الرسالة التي كتبها على طرس خفيف جداً، ووضع حلقة معدنية تثبته في قدم الحمامة وأرسلها مع النسيم، معانقة السحاب، ورفرفت الحمامة مودعة ذلك العاشق.
يبدو أن التعب بلغ مداه من الحمامة فتوقفت تحت شجرة لها ظل وارف، واعتلت غصناً طرياً، والأرض تفوح بعبق الربيع؛ ولكن صياداً كان يحدق فيها باستغراب؛ إنها وجبة غداء لذيذة لمعدته الخاوية وأمعائه المقفرة، بسرعة البرق وجه فوهة بندقية الصيد معلناً مقتل رسالة الحب، لحظات وإذا بالحمامة مضرجة بدمائها عندما التقطها الصياد من تحت الشجرة أثارت استغرابه، هل هي حمامة أم لا؟، هل سيأكلها أم لا؟، وقال له صديقه وهو يبادله الشعور نفسه:
-إن هذا ليس موسم هجرة الطيور.
رد عليه:
-سنأكلها الآن وعندما نشبع سنناقش الموضوع.
وضع قدر الطبخ الأسود من كثرة الطبخ فيه على النار، سكب الماء بداخله، وضع بعض الملح، قام الصياد بتنتيف ريش الحمامة، وقطع ساقيها؛ ولكنه لاحظ الرسالة، قرأها وهو لا يفهم ما فيها، فاستشار صديقه الذي قال له:
-يبدو أنها رسالة حب.
ضحك الصيادان حتى استلقيا على ظهريهما، بعد أن تجشأ الصيادان من الضبان الكثيرة والحمامة الوحيدة التي أكلاها، هضما الوجبة بالشاي البري، ثرثر الصيادان في الطريق كثيراً ونسيا الرسالة في جيب أحدهما.
عندما وصل الصياد الذي في جيبه الرسالة، رمى ثوبه في وجه زوجته كي تغسله، فتشت الزوجة جيوب الثوب؛ فوجدت الرسالة، إنها لا تعرف من الأوراق إلا النقود، بالطبع رمتها في سلة المهملات، وفي اليوم التالي أخرجت[كيس نايلون] به القمامة والرسالة، التقط العاملون في سيارة القمامة الحاوية وأفرغوا ما بها في سيارة القمامة الكبيرة التي كانت تكتنز بالقاذورات، فرمت وهرست ومزقت سيارة القمامة الرسالة بآلة الكبس، ثم أفرغت سيارة القمامة ما بها في مكب النفايات الضخم على أطراف المدينة.
بعد أسابيع عدة امتلأ المكب الضخم بما تفرغ فيه سيارات القمامة فأشعلت في القمامة النار، وردمت بالتراب.
كان المطر يهطل في الشتاء بغزارة، فنبتت نبتة صحراوية صغيرة فوق مكب النفايات تمتد عروقها في الأرض من رسالة الحب المهروسة المحروقة المطمورة.
عندما جاء الربيع ازدهت هذه النبتة بأحلى حللها وأروع كساء أخضر منذ ما قبل التأريخ، وأخرجت رائحة عطرية زكية جداً، شم هذه الرائحة - التي كانت تنعش النفوس وتمدها بشهوة الحياة -كل من في الجزيرة العربية.
استغرب علماء الأحياء هذه الظاهرة التي لم يجدوا لها تفسيراً، وجاءت شركات العطور الجشعة لمعرفة السر، وأعلنت منطقة النبتة محمية صحراوية، ضجت وكالات الأنباء بالخبر، وتوافد السياح من كل أنحاء المعمورة، وأخيراً التقت عينا العاشق بمحبوبته وتواعدا على الزواج.