يعد كتاب «كفاحي» بيانًا لبرنامج سياسي كامل، فقد كان للنازية نظرية تتمحور حول العنصرية والشعب الآري المختار، والفكرة الدقيقة عن الفن المتدهور18، وفلسفة الرغبة في السيطرة والرجل الخارق «السوبر مان». كانت النازية بلا ريب تنتهج الوثنية الجديدة؛ لأنها معادية للمسيحية، بينما كانت المادية الدياليكتيكية لستالين (النسخة الرسمية للماركسية الشوفينية) مادية وإلحادية على نحو صريح، وإن كنا نعني بالشمولية نظاماً يُخضع كل تصرفات الفرد للدولة وإيديولوجيتها، فإن كلاً من النازية والستالينية كانتا أنظمة شمولية بامتياز.
) مما لا شك فيه أن الفاشية الإيطالية كانت ديكتاتورية، لكنها لم تكن شمولية تمامًا، ولم يكن ذلك بسبب اعتدالها بل بالأحرى بسبب الضعف الفلسفي لإيديولوجيتها. وعلى النقيض من الرأي الشائع، لم يكن للفاشية في إيطاليا فلسفة خاصة، أما المقال الموقع باسم موسوليني في موسوعة تريكاني فقد كتبه جيوفاني جينيل19 أو استلهمه منه أساسًا، لكنها عكست هيجلية حديثة للدولة الأخلاقية المطلقة التي لم يدركها موسوليني تماماً. لم يكن لموسوليني أي فلسفة، كل ما امتلكه هو الخطابة فقط. كان ملحدًا محاربًا في البداية، لكنه لاحقًا وقع الاتفاقية مع الكنيسة، ورحب بالأساقفة الذين باركوا رايات الفاشية. في سنواته الأولى لمقاومة الإكليروس، حسب ما تقوله الأسطورة، أنه سأل الله مرة - من أجل إثبات وجوده - أن يصعقه في مكانه، لكنه صار لاحقاً يكثر من ذكر الله في خطاباته ولم يمانع بأن يطلق عليه «رجل الله».
كانت الفاشية الإيطالية هي الديكتاتورية اليمينية الأولى التي تسيطر على دولة أوروبية، وكل الحركات المشابهة التي ظهرت لاحقًا وجدت في نظام موسوليني نوعًا من المثل الأعلى. كانت الفاشية الإيطالية أول من أسس طقوسًا عسكرية، أي نوعًا من الفولكلور، حتى في طريقة اللبس كانت مؤثرة بقمصانها السود أكثر مما يمكن لأرماني أو بينيتون أو فيرساتشي أن تفعل. لقد ظهرت الحركات الفاشية في الثلاثينيات فقط على يد موسلي20 في بريطانيا العظمى، كما ظهرت في كل من لاتيفيا وإستونيا وليتوانيا وبولندا وهنغاريا ورومانيا وبلغاريا واليونان ويوغسلافيا وإسبانيا والبرتغال والنرويج وفي أمريكا الجنوبية حتمًا. وقد كانت الفاشية الإيطالية هي من أقنعت العديد من القادة الليبراليين الأوروبيين بأن النظام الجديد كان يحمل نظامًا إصلاحيًّا مهمًّا، وأنه كان يوفر بديلاً ثوريًّا معتدلاً للمد الشيوعي.
ومع ذلك لا يبدو السبق التاريخي بالنسبة لي سببًا كافيًا لشرح لماذا أصبحت كلمة الفاشية مجازًا مرسلاً؛ إذ إنها يمكن أن تُستخدم لوصف العديد من الحركات الشمولية، ولا يعود هذا إلى أن الفاشية تتضمن في جوهرها كل العناصر التي تضمنتها الديكتاتوريات التي ظهرت بعدها. في المقابل لم يكن للفاشية جوهر؛ فقد كانت نظامًا شموليًّا مشوشًا، مزيجًا من مختلف الأفكار السياسية والفلسفية، وخلية من المتناقضات. هل يمكن للمرء أن يتخيل أن حركة شمولية قادرة فعلاً على الجمع بين الثورة والملكية، الجيش الملكي والميليشيا التابعة لموسوليني، الاستفادة من امتيازات الكنيسة والسيطرة المطلقة للدولة على السوق الحرة؟ لقد تجسَّد ذلك في الحزب الفاشي الذي كان يتبجح بجلبه نظامًا ثوريًّا جديدًا، لكنه في الوقت نفسه كان يحصل على تمويله من مالكي الأراضي المحافظين الذين توقعوا منه معارضته للثورة. كانت الفاشية في بدايتها جمهورية، لكنها ظلت مع ذلك تعلن ولاءها للعائلة المالكة طوال عشرين عامًا، بينما الدوتشي (الزعيم) (القائد الأعلى الذي لا يقهر) كان يقف جنبًا إلى جنب مع الملك الذي منحه أيضًا لقب الإمبراطور، ولكن عندما عُزل الملكُ موسوليني عام 1943 عاد الحزب الفاشي للظهور بعد شهرين بدعم ألماني تحت اسم الجمهورية «الاشتراكية» معيدًا خطه الثوري القديم ومدعمًا إياه بمسحة يعقوبية21.
كان لدى النازية نظام معماري واحد وفن واحد، وإن كان المهندس النازي هو ألبيرت سبير22، فذلك يعني أنه لم يكن هنالك مكان لميس فان ديررو23. والأمر نفسه ينطبق على حكم ستالين، فإن كان لامارك24 موجودًا لن يكون هناك متسع لداروين. أما في إيطاليا فكان هناك مهندسون فاشيون حتمًا، لكنك تجد العديد من الأبنية التي استلهمت العقلية الحديثة لجروبيوس25 قرب مقر مؤتمراتهم. لم يكن هناك «جدانوف»26 فاشي يضع خطًّا ثقافيًّا صارمًا، فقد كان في إيطاليا جائزتان فنيتان مهمتان، جائزة كريمانو التي يسيطر عليها الفاشي الوقح المتعصب روبرتو فاريناتشي الذي شجع الفن باعتباره دعاية (يمكنني أن أتذكر الرسومات التي تحمل عناوين مثل «الاستماع إلى خطاب الزعيم في المذياع» أو «التجليات الذهنية للفاشية»)، بينما كانت الأخرى جائزة بيرجامو27 التي يرعاها الفاشي المهذب المعتدل جيسبو بوتاي، الذي دافع عن مفهوم الفن للفن والأنواع المختلفة من الفن الطليعي الذي حُـظـِر في ألمانيا باعتباره فسادًا وشيوعية مقنـّعة.
كان الشاعر الوطني المتأنق دا أنونزيو28، الذي لو كان في ألمانيا أو روسيا لأرسل إلى المحرقة، قد عُين باعتباره شاعرًا للنظام بسبب وطنيته وإعجابه بالبطولة التي كانت في الواقع ممزوجة بالمؤثرات الغزيرة لعصر الانحطاط الفرنسي في نهاية القرن التاسع عشر29.
) انظر إلى «المستقبلية» التي قد يظنها المرء أحد نماذج الفن المتدهور إلى جانب التعبيرية والتكعيبية والسريالية، لكن المستقبليين الإيطاليين الأوائل كانوا قوميين، وأيدوا مشاركة إيطاليا في الحرب العالمية الأولى لأسباب علمانية، واحتفوا بالسرعة والعنف والمغامرة التي بدت كلها مرتبطة نوعًا ما بالإعجاب الفاشي بالشباب. وفي الوقت الذي أعلنت فيه الفاشية تأييدها للإمبراطورية الرومانية، وأعادت التقاليد الريفية، عُين مارينيتي30 (الذي قال إن السيارة كانت أجمل من تمثال «النصر في ساموتراس»31 وأراد أن يقتل ضوء القمر) عضواً في الأكاديمية الإيطالية التي عاملت ضوء القمر بكثير من الاحترام.
كان العديد من الحزبيين المستقبليين ومثقفي المستقبل للحزب الشيوعي قد نالوا تعليمهم في الاتحاد الفاشي لطلاب الجامعة الذي كان يفترض به أن يكون مهدًا للثقافة الفاشية الجديدة، وأصبحت هذه النوادي نوعًا من البوتقة الثقافية التي تدار فيها الأفكار الجديدة دون أي سيطرة إيديولوجية حقيقية، ولم يكن ذلك بسبب تساهل رجال الحزب في التفكير الراديكالي، بل لأن القليل منهم امتلك العدة الثقافية للسيطرة عليه.
خلال هذه السنوات العشرين كان شعر مونتالي32 وبعض الكتاب الآخرين المتعاونين مع جماعة تسمى إرميتيشي ردة فعل على الأسلوب الطنان للنظام، وقد سمح لهؤلاء الشعراء بالتعبير عن معارضتهم الأدبية من داخل برجهم العاجي. لقد كان نمط شعراء إرميتيشي بالضبط هو نكوص نحو الإعجاب الفاشي بالبطولة والتفاؤلية، وقد تساهل النظام مع معارضتهم الصريحة بالرغم من ضآلتها اجتماعيًّا؛ لأن الفاشيين ببساطة لم يكترثوا للغة رمزية كهذه.
كل هذا لا يعني أن الفاشية الإيطالية كانت معتدلة؛ فقد سجن جرامشي حتى مات، واغتيل قادة المعارضة جياكومو مايتوتي والإخوة روسيلي، كما قضي على حرية الصحافة، وفُككت نقابات العمال، ونُفي المعارضون السياسيون إلى جزر بعيدة، وأصبحت السلطة التشريعية محض خيال، وأصدرت السلطة التنفيذية (التي سيطرت على القضاء والإعلام) مباشرة قوانين جديدة، من بينها قوانين تدعو للحفاظ على العرق (الحركة الإيطالية الرسمية لدعم ما أصبح اسمه الهولوكوست).
لم تكن الصورة المتناقضة التي أصفها نتيجة التسامح، بل بسبب التشوش السياسي والإيديولوجي، لكنه كان تشوشًا صلبًا واضطرابًا منظمًا، فقد كانت الفاشية مفككة فلسفيًّا لكنها مرتبطة بشدة ببعض الأسس البدائية عاطفيًّا.
) وأنتقل الآن إلى نقطتي الثانية. إذن فقد كان هناك نازية واحدة، ولا يمكننا أن نصم كتائبية فرانكو الكاثوليكية بالنازية، فالنازية وثنية في جوهرها ومشركة وضد المسيحية، لكن يمكن أن تُمارَس لعبة الفاشية في أكثر من شكل دون أن يتغير اسمها. لا تختلف فكرة الفاشية عن فكرة فيتجنشتاين 33 عن اللعبة 34؛ فهي يمكن أن تكون تنافسية أو لا تكون، ويمكن أن تتطلب مهارة خاصة أو لا، كما يمكن أن تشمل المال أو لا تشمله.. فالألعاب أنشطة مختلفة، تُظهر بعضًا من صور العائلة فقط كما يصفها فيتجنشتاين، وانظر إلى هذه المتتالية:
1 2 3 4
أ ب ت / ب ت ث / ت ث ج / ث ج ح
لنفرض أن هناك سلسلة من الجماعات السياسية التي يمكن وسم أحدها بالأحرف أ ب ت، وجماعات أخرى بـ ب ت ث وهكذا. تشبه المجموعة الأولى الثانية بما أنهما تمتلكان عنصرين مشتركين، وللسبب نفسه فإن المجموعة الثالثة ستكون مشابهة للمجموعة الثانية، والرابعة مشابهة للثالثة. انتبه إلى أن المجموعة الثالثة تشبه الأولى (فهما يشتركان بالحرف ت)، وتمثل الرابعة الحالة الأكثر غرابة التي تشبه المجموعتين الثانية والثالثة بوضوح، لكنها لا تشترك في أي عنصر مع المجموعة الأولى. وعلى أية حال، بسبب السلسلة غير المنقطعة للتشابهات المتناقضة بين الأولى والرابعة يبقى هنالك - بنوع من الانتقالية الوهمية - ارتباطٌ عائلي بين الأولى والرابعة.