(1)
هل السلفيّة - السياسية إلى زوال؟.. بمعنى أنّها لم تعد قادرة على وجود مقبول بين الناس قبل الأنظمة، وقد ازدات الريبة من ادّعاءاتها الاجتماعية، وأعمالها التطوّعية، واعتدالها الاتّقائيّ - الوقائيّ، وعدد من تيّاراتها اليوم: بين محظورة لمن أفرط في البقاء على حال الاعتدال وأباح بالانشقاق مهدّداً السلم الأهلي في أكثر من دولة عربيّة معتقداً أنّ الوقت والعموم العربي عاملان حاسمان في انتقاله من الاعتدال إلى التطرّف لتحقيق أجندته، أو تيّارات مُباحةٍ ما زالت على محافظتها وتبعيّتها إذا كانت (تلك الحركات أو رجال الدين) في تحالفٍ مع السلطة في نبذها للحركات المحظورة، فإلى أي مدى يقدر هذا الوجود الأليف أن يتخلّص من (الجينات الدينيّة - السياسيّة) بوصفه حاملاً بالضرورة لهذه الجينات التي تنقله - وقتما حان الظروف - من التحالف والاعتدال إلى التطرّف والتكفير، علماً بأنّ مرجعيّات كلا الاتجاهين: (العنيف والأليف) في الخطاب الديني - السياسي ينتميان إلى مصادر منتقاة وتأويلات تراثيّة لا يمكن إصلاحها أو تعديلها لأنّها ثبتٌ تاريخيٌّ جاسمٌ في المتون التاريخيّة الدينيّة والفقهيّة، ولأنّها في متناول الجميع، واستخداماتها في المعاصرة السياسيّة العربيّة مشرَّعةٌ ومباحةٌ من قبل الأنظمة السياسيّة قبل معارضيها.
هل انتهت السلفيّة - السياسيّة في الواقع؟.. بمعنى: أنّ نفوذها وشعبيّتها وحضورَها (الوصي والولي) قد تجاوزه العموم العربي، وهو تجاوزٌ للشعبيّة والتأييد، وليس يعني تجاوزاً لمقولات السلفيّة - السياسيّة.
(2)
قد يبدو أنّ أسبابَ تراجُعِ السلفيّة - السياسيّة وانكماشِ شعبيّتها تعود إلى: مكارثية تجاربهم في السلطة عربيّاً وإقليميّاً، واحتلال حريّات العموم؛ لكنّنا لا نتوقّف عند هذه الأسباب وتصويرها أنّها مقصورة على تجارب اليمين المتطرّف الإسلامي ومختزلة في المعارضات التي وصلت إلى السلطة، كأنّ تبعات الاستبداد والإقصاء ومُصادرة الحريّات ظهرت جديداً ولم تكن مألوفة في الواقع العربي؛ بينما نرى أسباب تراجع شعبيّة السلفيّة - السياسيّة عائدة إلى عاملين مهمّين: (الأوّل: عاملٌ سياسيٌ) يتمثّل في صدور تشريعات وقرارات سياسيّة من بعض الأنظمة العربيّة في مواجهة هذه التيّارات، وعلى رأسها السعودية ودول الخليج، وهو ما يمهّد لمطالبة هذه الأنظمة نفسها بالتنازل عن توظيف تأويلات رجال الدين في حقول السياسة، لأنّ الأصلَ في شرعيتها مرتبطٌ بالقوّة والوحدة ورضا الناس عنها وليس مرتبطاً بتعميد رجال الدين؛ (والثاني: عاملٌ ثقافيٌّ) يتمثّل في انتشار وعي الاحتجاج الفردي على وصاية رجال الدين، واستغلال السياسيّين لهذا الأسلوب؛ وهو البروتستانت العربي الذي كسر احتكار مصادرة رجال الدين لفهم الدين، وأصبح فهم الدين في متناول العموم والتدبّر الفردي؟! وقدر هذا البروتستانت العربيّ أن يستمرّ في احتجاجاته لإزالة العوائق الكبرى في سبيل حريّاته وحقوقه.
(3)
ماذا يريد دُعاة السلفيّة - السياسيّة؟
لماذا تدخل دعوتهم في مواجهات يوميّة ضدّ حريّات الناس، ضدّ تحديث الدولة ومرافقها وتسهيلاتها وأنظمتها، ضدّ الغريب، ضدّ الثقافات الأخرى، ضدّ كلّ ما تستخدمه: بدءاً بأقمشة ملابسها المصنوعة خارجاً، حتّى وسائلها التي تستخدمها في محاربة هذا الصانع، لا صناعاته.
ماذا تريد؟ العودة إلى طوطم الجماعة المتمثّل بوجود فرد راعٍ حوله قطعانه من رجال مستزلمين ونساء مستضعفين وولدان جاهلين يُساسون كيفما شاء سائسُهم، ويسومهم ما يصبو ويحلو له؟ أم هو استغلال واضحٌ وفاضحٌ يستهوي المرء في التحوّل من مُدّنس إلى مقدّس، من إنساني إلى ما فوق طبيعة الإنسان؟
أين هذا من الدين؟.. ألم يحرّر الدينُ الإنسانَ من عبادة الإنسان؛ هل تقف الأصولية ضدّ هذا التحرّر؟ كيف يضرُّها ما هو جوهر الدين، حيث حرية المشيئة الإيمانيّة: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} الكهف/25، {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} يونس/108.
كيف يضرّها ما هو جوهر الدين من حيث حقّ المسؤولية الفرديّة الناجم عن حقّ الحريّة الفرديّة: {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} مريم/95.
أين هذا من الدولة؟.. أيتحمّل واقعيّة وحدة الدولة في مكوّناتها أن تضع في تشريعاتها ما يسبّب نشوء سلطات متعدّدة تتنازع على وحدة البلاد وتعرّضها للتقسيم؛ أليس في قوانين الدولة ما يجرّم تدخّل الناس في شؤون الناس؛ فمن أعطى لهؤلاء الحقّ المدنيّة في محاربة الحقوق المدنيّة للمواطنين.
(4)
ماذا يريد دعاة السلفيّة - السياسيّة؟ هل تعي السلفيّة أنّ خطابها موجّه لشخوصٍ مؤمنينٍ وفي زمنٍ لم يعد من الجاهليّة بشيء؟ ثمّ من فوّضها أن تتحدّث باسم الله والدين؟
هل تريد أن تحاكم الناس في بيوتهم، أرزاقهم، علاقاتهم؟ محاكم تفتيش على مستوى النوايا، وأخرى احترازيّة لسدّ الذرائع، هكذا يكون الناس تحت رحمة هؤلاء.. ويكونون تحت خطر الإعدام والاستئصال أو التصفية أو النبذ..
من له حقّ الدينونة؟ من الديّان؟ أين هذا من الدين؟ أين هذا من الدولة؟
إنّ ما يحمله الداعية من بضاعة هي ضد الدين قبل أن تكون ضدّ الدولة، ضدّ الإنسان والفرد، فإذا كان مقام النبوّة قد خُتمَ وانتهى، فإنّ ذلك المقام على عظيم قدره ومنزلته لم يكن صاحب سلطة على إيمان الناس: {لَيْسِ عَلَيْكَ هُدَاهُم} البقرة/272، {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} يونس/99، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ - لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} الغاشية/21-22 {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ/ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} الغاشية/25-26، {وَلَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} الأنعام/107.
(5)
ماذا يريد دعاة السلفيّة - السياسيّة؟
الانغلاق، عدم الانفتاح على الحضارات والثقافات الأخرى، توخّي الحذر، عدم التعامل معهم إلاّ في أضيق الحدود!!
أين هذا من الدين؟ {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} الحجرات/13، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} المائدة/48.. أين هذا من الدولة؟ فواقعاً، لا يمكن لأيّ دولة في العالم إذا أرادت الحدّ الأدنى الاستفادة من منتجات الحضارة الإنسانية إلاّ أن تكون على انفتاح مع العالم وفق أدوات المركز والكثير من شروطه، ولست ترى في شروط هذا العالم في التعايش والتعامل ما يُعارض ويحاصر معتقدات الناس وحقوقهم في ممارسة طقوسهم.. وأنت حينما تشاهد مواطني الغرب خاشعين في صلواتهم داخل كنائسهم، أو يمارسون طقوسهم بأعداد غفيرة، وآخرين مسلمين داخل مساجدهم؛ فهل هي بلاد لا تعرف الدين؟.. هل هؤلاء (الذين يعيشون تحت أنظمة علمانيّة) قد تجرّدوا من إيمانهم؟ بغضّ النظر عن إيمانهم لك أنت أيّها القارئ، ألا توجد الكنائس والكنس والجوامع والصوامع، ويمارس أصحاب الديانات جميعهم صلواتهم وطقوسهم دون أن ترى حجراً أو مصادرة لأحد أو منعاً له أن يمارس معتقده، فهل ترى في تلك الأنظمة من تنطبق عليه الآية الكريمة: {أرأيتَ الَّذِي يَنْهَى*عبداً إذَا صَلّى}.
فهل من العقل والحكمة الظنّ بأنّ تمكين العلمانيّة في الغرب كنظام سياسيّ لا يفرّق بين الناس على أسس دياناتهم أو أعراقهم أو مذاهبهم، ويمكّن أتباعهم ممارسة طقوسهم، ودون تمييز لحقوق الناس بناءً على مراجعهم الدينيّة أو المذهبيّة أو تخصيص امتيازات تجرح المساواة في المواطنة، فهل هذه أنظمة ضدّ الدين والمتديّنين؟!!
(6)
هل انكماش السلفيّة - السياسيّة اليوم تقوقع إراديّ، لمراجعة خطابها وإصلاحه من منظور تصوّراتهم الداخلية، وإصلاح الجسر الاجتماعي الذي تهدّم بينها وبين العموم العربي والسعودي، بعد انكسار المشروع الإخواني السياسي واستشعار السعوديين والإماراتيّين لمخاطر هكذا مشروع على الخليج والمنطقة العربية، مع وجود وعي عربيّ - فرديّ يتقبّل التشريعات التي تحدّ من المدّ الديني - السياسي؟.. هل انتهت حجج السلفيّة - السياسيّة في عقول العموم، وانزوى كتّابُها ومؤيّدوها وما تبقى لها سوى أرجوحتها بين الاعتدال والتطرّف، وبين استغلال التماهي الديني والانزواء اجتماعيّاً تحت تحوّل الخطاب من التحريض والتطرّف إلى التنصّل منه؛ (من الدعوة والتحريض على القتال في سوريّا إلى الدعوة للصيف في قبرص واليونان).
الأسئلة عديدة، والواقع أنّ الأصولية بأشكال عديدة ومسمّيات مختلفة: (سياسيّة أو دينيّة) ما زالت موجودة (ماديّاً) لكنّ مصداقيتها تواجه أزمة وجودٍ تأثّراً بازدياد حظر العديد من تيّاراتها، وتأثراً بعدم شرعيّة وجودها كمؤسّسات اجتماعيّة نظراً لأجنداتها التي لا تختلف في نهاية الأمر عن أيّ أجندة إقصائيّة انقساميّة تهدّد السلم الأهلي؛ والعديد من تفريعات الأصولية تحاول تجيير انكساراتها وتراجع مصداقيتها أمام جماهيرها إلى فصيل واحد من فصائلها المتعدّدة، كما ديدنها أنْ تتنصّلَ براءة من أيّ فصيل ديني - سياسي يصل إلى حالة ينكشف فيها تهديده للسلم الأهلي دون أن يملك قوّة تحميه وتحميها؛ فلئن كانت تاريخيّاً قد قدّمت نفسها أنّها ممثّلة عن الدعوة - الأم، فإنّ التمثيل اليوم لم يعد يقنع الأتباع والحلفاء من ناس وسلطة، ذلك أنّ فهمَ الدين مشاعٌ للجميع ولم يعد حكراً على طبقة دون أخرى، وهو الوعي الذي بدأ يتنامى تحت بروتستانت الثقافة والدين على العموم العربي، ولعلّه قد يكون من أهم مزايا شيوع المعرفة والنت والتواصل الاجتماعي، لكن ذلك لا يعني نهاية هذا الخلط، ذلك أنّ الأنظمة العربيّة تستغل الدين لأجل شرعنة وجودها، كما أنّ اللاعبين الجدد في ليبيا ومصر واليمن وتونس والعراق..: (مدنيّين أو عسكريين) لا ينفكون يستغلون الدين ويمارس العصبة أو البذرة الأساس في خطاب خصومهم الدينيّين - السياسيين.