Saturday 21/06/2014 Issue 443 السبت 23 ,شعبان 1435 العدد

سوريا السوريالية

(ليرجع لي أبي وأمي اللذان قتلهما وبعدها أنتخبه)

طفل سوري لمذيعة تلفزيون LBCI

(1)

قبل عشر سنوات، كتب المؤرخ الراحل نقولا زيادة (1907 - 2006م)، مقالاً في جريدة النهار سرد فيه، يومذاك، كيف أنّه كان طالبًا في جامعة لندن، حين تولى ونستون تشرشل مقاليد الحكم. وكيف أنّه كان طالبًا زائرًا، في جامعة برلين، حين انتخب أدولف هتلر، زعيمًا للأغلبية البرلمانية، وبعدها استولى على الحكم. قال ما يمكن أن يكون سرديةً لشخص، عاصر قرنًا كاملاً من التغيِّرات الجذرية، على كافة الصعد. وكيف أنّه لم يصدق، كيف انقضت السنوات العشر ليحقق أمنيته بالانتخاب، بعد أن أصبح لبنانيًا. أخيرًا أصبح لصوته قيمة بعد قرن من الانتظار. لكن مختار الناحية التي يتبع لها وفاهُ بعد رؤية تاريخ ميلاده ولم يرد التأكَّد من صحة البيانات فذهب صوتهُ هباءً كما لو أنّه لم يكن.

أعادتني الانتخابات الرئاسية السورية، التي حصلت يوم الاثنين (3 حزيران) إلى مقالة نقولا زيادة الذي ولد في دمشق. أعيد انتخاب بشار الأسد، طاغية لسبع سنوات تالية، مكافأة له على قتل حوالي مئتي ألف سوري وتشريد تسعة ملايين وسجن مئات الآلاف وإخفائهم بحجج مختلفة. لكنها ليست انتخابات بأصوات. هي انتخابات بأصوات ميتة بلا ضمائر. كان هذا كلّّه نتيجة أن السوري قرر، في ليلة واحدة، أن يثور على أربعة عقود من التدجين، والقمع والإرهاب وكتم الأصوات. لكن الطاغية قرَّر أيْضًا بعد تربيته بشكل جماعي. فأعاد انتخاب نفسه ليكمل مشواره في حصد الأرواح.

في روايته البديعة (حفلة التيس) يسرد لنا ماريو فارغاس يوسا سيرة جمهورية صغيرة اسمها جمهورية الدومينيكان في أمريكا الوسطى حكمها ديكتاتور اسمه رافائيل ليونيداس تروخيو مولينا حيث لم يكتف بسرقة الدولة، رغم تقديمه للخدمات البسيطة. بل عمد إلى فعل مجزرة بشرية بقتل كل الهايتيين الذين يقيمون على الحدود المتداخلة بين جمهوريته وهايتي. استمرت المجزرة ستة أيام قتل خلالها خمسٌ وثلاثون ألف هايتي من أصحاب البشرة السوداء. ذكرت التقارير الدوليَّة والأمريكية حصرًا، أن المجزرة تمَّت باستخدام السكاكين، لكي لا يشار إلى تورط جيش تروخيو.

يدخل يوسا إلى فترة حكم تروخيو من خلال الأخوات ميرابال اللواتي قتلهن تروخيو ومنهن المحامية مينيرفا ميرابال التي كانت معارضة شرسة لحكمه فقام بالتحرش بها جنسيًا بشكل مقذع، ثمَّ قتلها. عاشت الدومينيكان ثلاثة عقود من حكم تروخيو المستبد. صحيحٌ أنّه حسن ظروف العيش للمواطنين وأمم المرافق الصحيَّة والتَّعليم ودخلت البحبوحة إلى جيوب الدومنيكانيين. لكنه إلى جانب ذلك، أصبح من أثرياء العالم وكان شاذًا. كتب يوسا الرواية بعد موت تروخيو، الطاغية لم يورث ابنه ولا زوجته ولا أحفاده سوى المال، عكس حافظ الأسد الذي بنى نظامًا على عظام السوريين، ثمَّ ورثه لابنه لكي يجرُمَ ما تبقى من لحم عليها.

(2)

لا نعلم فعليًّا ما مشاعر بشار الأسد الحقيقية. لا أحد يعرف سوى أولئك الذين يلتقونه، وهؤلاء مأتمنون على عدم البوح سوى ما عكس الواقع. لقد بدأت بعد انقضاء عام على الثورة السورية، اعتبار الأسد الابن أحد أهم الشخصيات الروائية المعاصرة. ولو قيض لروائي أن يكتب رواية تكون ذات صدى عالمي عليه أن يكتب عن الأسد. لا أقصد بهذا الكلام إعطاء أهمية للأسد نفسه قدر ما يهمني الإضاءة على ما يحيط به من عوالم سريالية، تجعل من أيّ شخص مكانه شخصيَّة مخبريَّة.

يجلس الأسد في القصر الرئاسي. لا ندري فعليًّا في أيّ قصر يقيم، ما نعلمه أنّه يقيم في قصر وهذا بحد ذاته مدعاة للاستغراب. كيف يقيم شخص يكرهه شعبه في قصر الشعب. على الأرجح هو يقيم في قصر آخر، قصر من عظام بشرية. ساعدت البدايات الأولى للتصوير الفوتوغرافي في منطقتنا، على اكتشاف صور الجماجم التي كان الأتراك يصفّونها فوق بعضها البعض حين مجازر الأرمن. لكنا في زمن أصبح التصوير من السَّماء يلتقطُ النمل على الأرض. هذا فيه كارثة للأسد كما اعتقدنا، لكن على ما يتضح يومًا بعد يوم أنّه لا يكترث. هل درس الطب كي لا يتأثر بمشاهد الدماء التي عادة ما يعتاد عليها الأطباء، فيتحصنون ضد مشاهدها. لكن أين يسكن الأسد؟ هل يشاهد التلفاز؟ هل يقرأ الصحف؟ هل يلاعب أولاده؟ هل تصله أخبار الشوارع المقفلة في دمشق مثلاً؟ هل يذهب كما كان يذهب إلى المطاعم في دمشق؟ هل يتناول طعامه كما كان في السابق؟ كيف ينام وأين؟ هل في غرفته نافذة؟ هل يتصل به أحد غير قادته الأمنيين الخُلّص؟ أسئلة لا تحصى تحضر ويغيب عنها المنطق والوعي.

يطل قصر الشعب على دمشق. مؤكد أن الأسد لا يقيم فيه وإلا كان سهلاً قتله. لكنّ القصر ذا الأعمدة الرخامية المكعبة والعالية يطل على دمشق كما أنها طبق فواكه. بنى حافظ الأسد قصرًا جميلاً على رابية من روابي قاسيون، الجبل الذي يحتضن دمشق. لكن الأسد الأب لم يسكنه، كان مكتبه هناك، يستقبل ضيوفه هناك، ثمَّ يعود إلى الغذاء في بيته في المالكي بعدها يأخذ استراحة قصيرة، ثمَّ يعود إلى مكتبه لينجز ما تبقى في جدوله اليومي. كانت سورية تعيش تحت ظلَّ ديكتاتور لا تنام نملة فيها إلا تحت رعايته وعيون أجهزته. لكن الحياة كانت تسير على مهل، كانت الصحف تصدر يوميًّا والشمس تشرق وتغيب. وحرصًا على كمال المشهد، كانت الصحف المحليَّة تصدر صفحات ثقافية يومية وملاحق ثقافية أسبوعية. كما أن سورية كان بها اتحاد كتاب (تخيلوا المهزلة!!) وفي فترة غفلة عاشها التاريخ العربي، كان رئيس هذا الاتحاد رئيس اتحاد الكتاب العرب.

الأدب السوري، الذي كتب في فترة حافظ الأسد، كلّّه، يحتاج إلى إعادة قراءة. يحتاج إلى نفضة جديدة وإلى تقييم. كان الأدب يكتب عن كل القضايا التي في العالم سوى قضايا الشعب السوري. لقد حول الأدب الذي كتب في الثمانينات والتسعينات في سورية، حول المواطن السوري إلى سوبر مان لا يهتم بالصغائر من المشكلات كالطوابير الطويلة أمام أفران الخبز، أو عدم رؤية ثمار الموز سوى في الكتب والمجلات. وضع الأدب قضية فلسطين نصب عينيه وسخف كل ما دونها من قضايا. تاجر بها من كافة الزوايا ولم يترك منها فتفوتة واحدة، حولها إلى هم بينما كان المواطن السوري يئن تحت هموم كثيرة لا يمكنه أن الإفصاح عنها. كان النظام هو الذي يخترع كل شيء عن المواطن وحوله إلى عالة على الدَّولة لا ينتج إلا بالأمر ولا يتكلَّم إلا بالأمر ولا يجرؤ حتَّى على إنجاب الأطفال إلا بالأمر.

إن النموذج الألمعي الذي قدمه الماغوط في الأعمال المسرحية (غربة وكاسك يا وطن) لم يكن نموذجًا محليًّا، وإلا لما قدم في سورية يومذاك. بل كان نموذجًا شاملاً يحوِّل حالة الإحباط التي يعشها المواطن إلى خارج الحدود. ولهذا جاءت أعماله النقديَّة فيما بعد أعمالاً قاسيةً تضيء على بعض الحالات المحليَّة دون تسميتها. كان الماغوط يعول على غباء الرقابة وذكاء القارئ السوري الذي للأسف في تلك الفترة لم يكن لديه ثمن الكتاب.

(3)

دمر حافظ الأسد الشخصيَّة السورية، هشمها نفسيًّا فتحوّلت إلى تابع لكل شيء إلا ذاتها. السوريون عاشوا فترة ذل استمرت كل فترة حافظ الأسد الذي حكم سوريا بالحديد والنار والرشوة والفساد. غير أنهم في فترة ولده وما أن تمردوا حتَّى دمر سورية على رؤوسهم. دمر الأسد الأب السوري ودمر الأسد الابن سورية.

كانت سورية شيئًا وأصبحت شيئًا آخر. لقد دمرت سورية لكن السوريين استعادوا كرامتهم وعنفوانهم وهذا وحده أن بقي لهم يبني وطنهم من جديد.

سيمون نصار - باريس