Saturday 21/06/2014 Issue 443 السبت 23 ,شعبان 1435 العدد
21/06/2014

سلطة الرمز

لست بسبيل الحديث عن مفهوم الرمز ودلالاته المختلفة، فهذا حديث يطول، ولكن الحديث عنه لا يمكن أن يكون بمعزل عن المرموز له وذلك من ناحية دلالته، فالعلم الأخضر المكتوب عليه كلمة التوحيد مع صورة سيف تحتها، أو صورة النخلة التي يحيط بها سيفان متقاطعان بطريقة معينة كلها ترمز إلى المملكة العربية السعودية، وتوحي لمن ينظر إلى هذا الرمز بالدلالة التي يحملها المرموز له.

هذه الدلالة للرمز يتفق عليها كل الذين يجدونه، لكنها ليست الوحيدة التي قد تكون مرتبطة بالرمز وناتجة عنه، فالرمز أيضا له تأثير على المطلع عليه من حيث إنه يوحي للمتلقي بحضور المرموز له، وبتملكه سطوته ونفوذه، حتى أصبح هذا الحضور والتأثير مرتبطا بالرمز نفسه بما له من سلطة وحضور في نفوس الناظرين إليه المؤمنين به. وقد يكون السبب في ذلك أن قوة الرمز تكمن في الجماعة التي يمثلها وتؤمن به، وتشعر بأن المساس به مساس بها، وذلك مثلا كما في المثال السابق، حين نرى أن إحراق علم ما يعني دلالة رمزية لإحراق شيء أبعد منه، أو تمزيق الحجاب مثلا يأخذ دلالة أبعد من أن يكون تمزيق قطعة قماش في مكان عام، أو كشف وجه امرأة لا ترغب أن يكشف إذا كان الحجاب في تلك الساعة ملبوسا من قبل امرأة. لكن هذه الوظيفة الاجتماعية الإيديولوجية ليست مرتبطة بالرمز نفسه، بقدر ما هي مرتبطة بالدلالات التي يتحملها من جهة، وبموقف الجماعة التي تؤمن بما يشير إليه، ولا يتصل به نفسه.

على أن هناك محاولات أخرى لربط هذه الدلالة الرمزية بالرمز نفسه، مما يعطي هذا الرمز دلالة معينة، أو مبررا لتحمله هذا المعنى، مما نجده مثلا في أفلام «مصاصي الدماء»، فمعلوم أن قيمة الصليب برمزيته على التضحية، والمعاناة بناء على القصة التي تقول: إن المسيح عليه السلام قد علق على الصليب ليكفر عن خطايا بني آدم بتحمله هذه المعاناة. وهذا في الحقيقة لا يعطي «الصليب» نفسه قداسة إلا من حيث رمزيته، وتذكيره بهذه القصة والفكرة. لكن عندما يأتي الصليب بوصفه هو الأداة الوحيدة التي من خلالها يمكن قتل «مصاص الدماء» وذلك بوضع الصليب على جبهته، فإن هذا يعطي هذا الرمز معنى خارج رمزيته إلى معنى واقعي يتحمله الصليب نفسه بوصفه أداة خاصة ذات قدسية معينة بناء على وظيفة خاصة، وليس أنها ذات قيمة رمزية لدى جماعة تؤمن بحكاية محددة، تذكرها هذه الأداة بها، وبتفصيلاتها. وهذا ما يمكن أن نقوله إنه نوع من محاولة تحويل الرمز إلى شيء واقعي، وإعطاء الأداة قيمة بذاتها.

وهذا يختلف عن أن يكون الرمز نفسه يتحمل هذا المعنى، ويصبح دالة وفاعلا بعيدا عن رمزيته إلى ما تؤمن به الجماعة، وذلك من مثل ما جاء في الصور التي تناقلتها بعض وسائل الإعلام عند سقوط بعض تماثيل الدكتاتوريين في العالم من أمثال ستالين، وصدام حسين حين انطلق الناس البسطاء في بغداد يركلون ذلك التمثال، ويضربونه مع علمهم أن هذه التماثيل مصنوعة من الخرسانة، والحديد، فهي لا تحس أولا ولا تخبر صدام حسين بما أصابها ثانيا، إلا أن هذا النيل من الرمز يتجاوب مع صورته في نفوسهم، والخبرات السابقة التي ارتبطت به. وهذا ما يسميه أصحاب علم النفس التربوي التعلم الإشراطي الكلاسيكي أو التعلم بالاستجابة، وهو الذي يكتسب فيه المتعلم خبرة معينة مرتبطة بتجربة محددة، فإذا زالت التجربة ظلت الخبرة، ويضربون له مثلا بنظرية بافلوف وتجاربه مع الجرس والطعام والكلب، والتي فيها يحل الرمز وهو هنا «الجرس» محل المرموز له وهو «الطعام» بالوظيفة وهي هنا إثارة شهية الكلب وإسالة اللعاب، فأصبح يخاطب المكتسبات النفسية التي تصاحب الرمز وهو في الأصل الصورة بناء على أن الشيء يتكون – كما لدى المناطقة- من صورة ومادة، فتبقى الصورة التي هي الرمز لأنها تذكر الناس بجرائم صدام حسين، والعذاب والخسف الذي أصابهم منه فتثير هذه الصورة تلك المشاعر فيحقدون عليها هي بما فعلته فيهم. وهذا ما يقوم به الرمز في نفوس متلقيه، فهو يعيد الخبرات النفسية السابقة لدى من عايشها بارتباطه بها، ويبعثها في نفسه مرة أخرى وكأنه رأى المرموز له نفسه.

وهذا يشبه إلى حد كبير قول الشاعر وهو علي بن الجهم:

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

أعدن لي الشوق القديم ولم أكن

سلوت ولكن زدن جمرا على جمر

فهذا الرمز- الصورة التي أمامه تعيد المشاعر القديمة، وتهيج الأحزان السابقة، فتكون كأنها الحقيقة، وكأنه عاش التجربة السابقة بكل معانيها، ولذا لا يكفي التخلص من التجربة السابقة، ولكن كل ما يرمز لها، ويوحي بها. هذه العلاقة بين الرمز والمرموز يتحول فيها الرمز إلى نافذ وصاحب سلطة مستقلة عن سلطة المرموز له، وما يمثله من إيمان المجتمع به.

أجد هذا المعنى في قوله تعالى في حديث إبراهيم عليه السلام عن الأصنام بعد أن دعا الله أن يجنبه وبنيه عبادتها، فقال: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ} (36) سورة إبراهيم. ففعل الإضلال هنا مسند إلى الأصنام التي في الحقيقة لا تعدو أن تكون تماثيل، وهي صور لأناس صالحين من قوم نوح كما جاء في الأثر. وقد جاء في القرآن الكريم نفسه أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر، ولكنها هنا تفعل الإضلال، وذلك أن النفوس قد تعلقت بها هي نفسها بعيدا عن المرموز الذي قد لا يكون معلوما لدى المتلقين في تلك الساعة، وكل ما يعلمونه هو هذه الحجارة التي أمامهم والتي أصبحت هي التي تتصل بما في نفوسهم من الإضرار أو النفع أو الغيث، مما يصيرها ذات سلطة مستقلة قائمة بذاتها.

- الرياض alshatwy@gmail.com