أحرف القسم المشهورة ثلاثة هي الباء والواو والتاء، وذهب جمهور النحويين إلى أنّ الأصل فيها الباء، وأما الواو ففرع على الباء والتاء فرع على الواو، ولعلهم ذهبوا إلى ذلك لأن فعل القسم يتعدى بالباء، قال تعالى {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ}[الحاقة-38]، ولأنها تجر الظاهر والمضمر، قال الأنباري «فإن قيل فلم قلتم إن الأصل في حروف القسم الباء دون الواو والتاء قيل لأن فعل القسم المحذوف فعل لازم، ألا ترى أن التقدير في قولك: (بالله لأفعلن: أقسم بالله أو أحلف بالله) والحرف المعدي من هذه الأحرف هو الباء؛ لأن الباء هو الحرف الذي يقتضيه الفعل، وإنما كان الباء دون غيرها من الحروف المعدية لأن الباء معناها الإلصاق، فكانت أولى من غيرها، ليتصل فعل القسم بالمقسم به مع تعديته، والذي يدل على أنها هي الأصل أنها تدخل على المظهر والمضمر، والواو تدخل على المظهر دون المضمر، والتاء تختص باسم الله تعالى دون غيره، فلما دخلت الباء على المظهر والمضمر واختصت الواو بالمظهر والتاء باسم الله تعالى دلّ على أن الباء هي الأصل»(1)
والمتأمل لاستعمال أحرف القسم يجد أنها مختلفة في أغراضها، فالواو التي هي أكثرها استعمالًا نجدها كثيرًا في سياق الجمل الخبرية مثبتة أو منفية لتأكيد مضمونها غالبًا، قال حسّان بن ثابت:
إذن واللهِ نرميهمْ بحربٍ
تُشِيبُ الطّفلَ مِنْ قبْل الْمَشيبِ
وقال:
فلا واللهِ ما تدري هذيلٌ
أمحضٌ ماءُ زمزمَ أم مَّشوبُ
أما الباء فتكون في سياق جمل طلبية لحث المخاطب على الفعل، قال عمر بن أبي ربيعة:
بِاللَّهِ، يا ظَبْيَ بَني الحَارِثِ،
هَلْ مَنْ وَفَى بِالْعَهْدِ كالنَّاكِثِ
وقال أيضًا:
قُلْنَ بِاللَّهِ لِلْفَتى عُجْ قَليلًا
ليسَ أنْ عجتَ للعتابِ كثيرًا
وقال الشاعر:
باللهِ يا ظبياتِ القاعِ قُلنَ لنا
ليْلايَ منكنَّ أم ليلَى منَ البشرِ
وأما التاء فتكون في سياق جمل للتعبير عن عواطف النفس المختلفة مثل اللوم والعتاب أو التحسر، قال تعالى {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [يوسف73] فهو سياق تعجب ودهشة وخوف، وقال تعالى {قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف85] وهو سياق عتاب وشفقة، وقال تعالى {قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}[يوسف91] والسياق فيه ندم وخجل، وقال تعالى {قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف95] وهو سياق عتاب، وقال تعالى {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ} [النحل56] وهو سياق توبيخ، وقال تعالى {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} [الأنبياء57] فالسياق للإنكار، وقال تعالى {تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الشعراء97] وهذا سياق ندم. وقال تعالى {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ}[الصافات56] وهو سياق لوم.
وليس ما ذكرته من استعمال أحرف القسم على هذا النحو سوى تقريب لا يزعم له الاطراد والعموم.
** ** **
(1) أبوالبركات الأنباري، أسرار العربية، 275- 276.
اعتذار: تكرر نشر «مداخلات الأسبوع قبل الماضي» في عددين متتاليين لخطأٍ تحريري.. نعتذر عنه للدكتور أبي أوس وللقراء الأفاضل.