Saturday 21/06/2014 Issue 443 السبت 23 ,شعبان 1435 العدد

سهام القحطاني

الحرية والعبودية البيضاء

21/06/2014

حرية بشروط ليست حرية

هل يعني ذلك أن مفهوم الحرية وقيمتها لا يكتملان إلا بالرفع الكلي لقيد الشروط؟

والمسألة لا تُقاس بالتناظر السابق لسببين؛ أولهما؛ أن الحرية ليست مُعادِلا بالتكافؤ «للفوضى» أو معادلا بالترادف «للهدم والتجريب» ،فالفوضى لا تصنع حرية،كما أن الهدم والتجريب لا يمكن أن يُشكلا مفهوما للحرية ولا يُنتجا قيمة لها.

والسبب الثاني أن المطالبة بالرفع الكلي لقيد الشروط لا يعني «عدمية الضابط»، ونحن هنا نقف وجها لوجه بين الضابط والشرط. و بلاشك فإن الشرط لا يُمثل مقام الضابط،كما أن الضابط لا يحتل دلالة الشرط،وبذلك علينا أن نفرق بين «الشرط و الضابط».

الشرط هو «صانع السقف» بينما الضابط هو «راسم المحيط»، وقد يعتبر البعض أن كلا الأمرين متساويان من حيث فاعلية الدلالة كونهما يمثلان بالتساوي «لمعنى الحاجز» وبذلك فلا تفاضل بينهما للمفهوم ولا تمييز لوجود قيمة من عدمها بينهما. ولا أحسب أن ذلك الاستنتاج موافِقا لطبيعة مسار الدلالتين.

إن السقف «معيار للحبس « وضاغط لمساحة المعنى في تمام الحصرية.

وقد يقول آخر وفق صفة المعيار أن المحيط يتماثل مع السقف كونه موصوفا بمعيار «حابس» مما يُسقط أي توجه للمفاضلة «لحساب المحيط». وهذا غير منطقي حسبما أعتقد فالمحيط هو «معيار حاجز» لا»معيار حابس» مثل «آلية السقف».

وإن كان معيار «الحبس» المُوكِل بالتضييق على الحرية أكثر تعقيدا مما يبدو على ظاهره،نظرا لعتاقة المعنى ومتانة سور دلالته وشدة حراس حدوده.

إن «سلبية الحبس « لا تكمن في أنها آلية للتحديد؛ لأن التحديد ليس حاملا لسلبية عامة، إنما سلبية الحبس كونها «ممثلة لسلطة الأحادية». أما «معيار الحجز» فيملك خاصيتي التحديد والتمدد وبذلك فإن تلك الخاصيتين تكفلان التجاوب مع التعددية والتشاركية ؛ كما أن «التجاوز» ليس الغاية من «الحرية» كما أنه ليس الهدف من «معيار الحجز». ومن العبارة السابقة نقف عند «مفهوم الحرية».

الحرية «هي حق المرء في الاعتقاد «كما هي «حق الجماعة في الاعتقاد» وضابط ذلك الحق أن لا يٌهين «أصل عقيدة» بالجهل والتشكيك والتسخيف والإبطال ولا»يضرّ بواجب وظيفي أو حق مقابل».

وبذلك فإن الحرية بهذا المفهوم تتصف «بسلمية الاعتقاد» فحق المرء والجماعات في الاعتقاد حق مشترك للجميع. ومتى ما لجأت الحرية إلى إهانة عقيدة أو أضرت بواجب ثقافي أو طالبت بإلغاء عقيدة أو هدمها خرجت من كونها «حرية خاصة أو عامة» إلى فكرة التجاوز والهدم والفوضى والعبودية.

هل يرتبط مفهوم الحرية بالخلفية العقدية للشعوب والمجتمعات ؟وقبلها هل الميل الإنساني إلى الحرية هو فطري بتأثير الطبع أو اكتسابي بتأثير الثقافة؟

إن سعي الإنسان في كل زمان ومكان إلى «مقاومة العبودية» بالجسد والفكر هو دليل إلى أن الميل للحرية قائم على الفطرية بتأثير أصل الطبيعة باعتبار «وجود المقاومة»،فالمقاومة إشارة إلى « قوة رفض جماعية - و فردية» لحالة أو صفة أو اعتبار أو هيئة أو هوية أو حذف أو إضافة.

والعبودية مُحفزة المقاومة تعني عدة أمور هي؛»مصادرة قدرة الجماعة أو الفرد على الرفض أو القبول» و « التحكم في استطاعة الجماعة والفرد لتوجيهها لبناء مواطنة يخدم ثبات تلك العبودية وترسيخها» و»فرض ثوابت لتحريف صفات الهوية المستقرة» و»إعادة تشكيل الانتماء الأيديولوجي للجماعة أو الفرد».

قد يقول البعض إن تلك الأمور هي قاسم مشترك لمفهوم تداولية التغيير والتطور وهذا صحيح لكن فيما يتعلق بمسألة التداولية فثمة شروط عاجلة أو آجلة وهي الاستيعاب والفهم وإرادة الرضا سواء بالاختيار أو بالمقتضى الداعم للفاعل النهضوي؛ أي الرضا المؤجل لاختبار المكتسب الإيجابي وصدقية تحققه بالنفعية.

وبذلك فوجود «الإتاحة « الكافلة للرفض وحتى إن لم تكن كافية للتأثير الجمعي هي ضامن لحرية اختيار التداولية لكنها ليست مانعة للحماية من الاندماج مع جو التعايش. وهكذا يُصبح اختيار التداولية النهضوية للفرد «حرية»مالم تُعق «حركة الفاعل النهضوي وتضرّ بالمصلحة الحضارية للمجتمع. وعلينا أن نفرق هنا بين موقفنا من «حرية اختيار الفرد» للتداولية النهضوية و «حرية اختيار الجماعة» للتداولية النهضوية من حيث شدة رفض وقبول تلك التداولية.

إن الجماعة هي مصدر التأثير على المنجز الحضاري وليس الفرد،ولذلك فمقاومة الفرد للتداولية النهضوية لاخوف منها إلا ضمن ماذكرته سابقا أن يكون إعاقة لحركة الفاعل النهضوي وهو لا يكون كذلك إلا في حالة تحول الفرد إلى»بطل شعبي» أو «ديكتاتور» وكم من «حاكم ديكتاتور قاد شبعه إلى سوء العذاب».

أما الخوف الحقيقي فهو «رفض الجماعة للتداولية النهضوية» لأنها وسيلة تحقيق الفاعل النهضوي ولايكتمل المنجز الحضاري إلا برضائها الآني أو المؤجل، الأدن ى أو الراقي. كما أنها وتلك نقطة مهمة ممثلة نشطة لحيوية تكرار دورة العبودية البيضاء» وهي غالبا-العبودية البيضاء» ما تعيق الجماعات عن قبول التداولية النهضوية والاندماج معها.

و«العبودية البيضاء» هي مجموع ذكرياتنا التاريخية وأعرافنا الدينية والاجتماعية؛ أليست تلك الذكريات التاريخية والأعراف الدينية والاجتماعية هي التي تتحكم في قدرتنا على الرفض والقبول لأي فاعل نهضوي؟ أليست هي التي تتحكم في استطاعتنا في الاندماج الحضاري بالتعددية والتشارك؟ أليست هي التي تفصلنا عن تحقيق انتماء حقيقي لبناء مواطنة تتجاوز الأحادية إلى شمولية التنوع؟.

إن خطورة «العبودية البيضاء» أننا لا نؤمن بعبوديتها وبذلك تظل خارج نطاق المقاومة ،خطورتها أيضا أنها تظل متحكمة في «المعيار الحابس» لشرط «قيد الحرية» تحت «توصيف الأصوليات»،وبذلك تُصبح داعمة لتمام الحصرية.

فالعبودية ليست تدخلاً أجنبياً يسلب قدرتنا على الرفض والقبول و حبس استطاعتنا على التطوير والتغيير فقط،بل هي أيضا أشياء أخرى لا تقل عن خطورة العبودية الأجنبية فجهلنا هو عبودية لأن الإنسان عدو ما يجهل، ومخاوفنا هي عبودية؛ لأن الخوف يمتص قدرة الإنسان وإرادته على التجديد والتطوير، وأحاديتنا التي نروّج لها زورا «بصفة الأصوليات» هي أيضا عبودية؛ لأنها تزرع داخلنا وهم القدسية ووثن التجربة لعبادتها تحت قائمة من الأفضليات. كما ان العبودية البيضاء قد تتكون من خلال»الهوس بالعلم» «الألوهية العلمانية» أو «الوحدانية الليبرالية»، والتي تحبس معتقدها في وثنية آحادية.

إن التطرف سواء باليمينية أو اليسارية أو بمطلق الإيمان و مطلق الإلحاد جميعهم صنّاع للعبودية البيضاء داخل الفرد والجماعة. وبذلك قد حان الوقت للإجابة عن السؤال الأول هل يرتبط مفهوم الحرية بالخلفية العقدية للشعوب و المجتمعات؟.

غالبا ترتبط الحرية بالخلفية العقدية للشعوب والمجتمعات،وأقول غالبا لأن في كل مجتمع مهما اتسعت خلفيته العقدية لحدّ اللاعقيدة فثمة المحافظون والتراثيون و متطرفو العقيدة ووجودهم له تأثيره في اختلاف النسبة كما له تأثيره في حصول صوت مُقاوِم لشطط الحرية الداعم للفوضى والتجاوز اللامنطقي وإن لم يكن فاعلا وفق لغة الإحصاءات، وإن كانت أصالته لها تأثير على المدى البعيد في ظل توفر كفايتي الحشد والإقناع. والأمر مثله على الجانب الآخر من الشاطئ فأي مجتمع مهما تكثّفت خلفيته العقدية لحدّ التطرف العقدي، فثمة ليبراليون وعلمانيون يسعون إلى توسيع تلك الخلفية ووجودهم له تأثير في اختلاف النسبة كما له تأثير في حصول صوت مختلف مقاوِم للتطرف العقدي وعبوديته البيضاء، وإن كانت صدقيته لها تأثير على المدى البعيد في ظل توفر كفايتي الحشد والإقناع.

لكننا لا ننسى أن كل مجتمع حتى تلك المجتمعات ذات التاريخ العريق في مجال الحرية لا يساند الحرية إذا تجاوزت خلفيته العقدية،والتجاوز لايعني «إحداث أذى»؛ لأن تعمد الأذى هو جريمة، وبذلك فليس هناك «حرية مطلقة بقصد التجاوز أو الفوضى أو الهدم»، وإلا حُسبت ضمن «الجريمة والعقاب». إنما هناك «حرية منضبطة» باحترام عقيدة الآخر، والاحترام هنا لا يعني وجوب تعدد العقائد ولا فرضية الإيمان بعقيدة أخرى أو الجمع بين عقيدتين، أقول الوجوب ليس مُلزما بذلك كما أنه ليس مانعا له.

أن تكون منضبطة بسلامة أمن الجماعة، وبذلك فإن الحرية التي تُنتج فتنة اجتماعية أو انحلالا أخلاقيا أو تعدياً على حق الآخر ليست بحرية إنما هي «جريمة» يُعاقب عليها القانون، و أن تكون منضبطة «بشرعية الاتفاق الجمعي،حتى لو عُدّت تلك الشريعة «عبودية بيضاء».

ولذلك تنتهي حرية المرء حيث تبدأ حرية الغير، فالغير هو ضابط «محيط حق الفرد فيما ينشره من اعتقاد» فهو من يُشكل أسس جواز شرعية الحرية وضوابطها. لكن «الحق فيما يعتقد المرء هو حق مطلق مادام صامتا» أما «حق حرية الإعلان» فلا يجب أن يتجاوز «قواعد الانضباط» التي يتحكم فيها «حق الغير» سواء الفرد أو الجماعة.

وهنا تُصبح حرية صانع الكلمة حرية مثقلة بمسئولية مراعاة قواعد الانضباط تلك وتحكمه في الفصل بين حاجز الصمت و مسئولية الإعلان أو «فقه الحلال والحرام فيما يُكتب ويُعلّن» في ظل «العبودية البيضاء».

«وكل موسم ثقافي والجميع بخير».

- جدة