- 1 -
استحسنت أن تكون هذه الحلقة الأخيرة تحمل من زاوية (وجوه وزوايا) طابعاً مختلفاً ومغايراً، وتفرض قضايا طازجة مستعجلة، كنت أود الكتابة عنها قبل أن تتوقف المجلة عن الصدور، وقد وضعت لنفسي هامشاً قبل أن أتوقف بالتالي، ويحول بيني وبين ما كنت أفكر فيه والكتابة عنه، وأتناسى هذه القضايا وأنسى إلى أن تعاود المجلة الصدور، بلغنا الله وإياكم وأعاننا جميعاً على صيام شهر رمضان الكريم وقيامه، وألتمس التجديد بأن نبض وجوه هذه الزاوية مباشرة، والتقاط ما نشر من نبضهم على وسائل التقنية الاجتماعية، وما تردد حول قضايا اجتماعية وثقافية تستحق التأمل، وإعادة طرحها لقناعة جادة؛ لأنها لا يمكن أن تمر مروراً متسارعاً في عالم الكتابي، وقلة هم الذين يتوقفون لقراءة ما يطرح من قضايا ثقافية..
وتأتي أولى تلك القضايا، وهي مما يتردد ذكره في كل موسم، كقضية تتجدد، وكان مفروضاً أننا تجاوزنا إشكالاتها المتكررة منذ زمن، لكنها ظلت حية بيننا، وتقدم لنا نفسها في كل موسم بشكلٍ أو آخر؛ لنعرفها ونكتشفها حينما تأتي عبر حكاية كاتب يعاني منها، وكأنه لا بد أن يكتوي بها كل مثقف. وأولى هذه القضايا قضايا الرقيب وموظف (المطبوعات) في إدارة، بقيت على حالها وحدها فاعلة في وزارة الثقافة بمفهوم الإعلام القديم، وقد تغير كل شيء إلا هذا الموظف الذي لم يتغير، ليواكب مقتضيات المرحلة وظروف العصر، فكانت هذه التغريدة التالية من نبض، الصديق الأدميرال الروائي/ عمرو العامري، مؤلف كتاب (ليس للأدميرال من يكاتبه) كمذكرات تحمل في طياتها نفس الروائي، وتعد من الأعمال المميزة، وحصدت بعض الجوائز، من بينها جائزة الوزارة ذاتها. لكن لعمرو تجربة جديدة مع رقيب الوزارة في روايته الجديدة (تذاكر العودة)، قال عنها عمرو:
(كان الثعلب يومها هو الصياد.. رواية فازت كاتبتها هيرتا مولر بجائزة نوبل للعام 2009، وترجمها د. خالد الشيخ لدارة «كلمة» الظبيانية. مثل هذه الرواية يشاء حظها أن تقع في يد موظف في وزارة الإعلام ليجيزها للسوق السعودي.. وعندما يقرأ موظف ويضع خطًّا تحت مقاطع، ويوصي بمنع الرواية.. وتمنع ويحرم قراء المملكة من عمل رائع كهذا.. فهذه العقلية لم تجز روايتي (تذاكر العودة) بحجة أنها غير بريئة، وأنا أعرف أنها غير بريئة، وإلا لما كتبتها يا أستاذ؟ وأشعر بالسعادة؛ لأن هذا الموظف ساوى بيني وبين هبرتا مولر الحائزة جائزة نوبل)!
ويمضي عمرو العامري في تشخيص الحالة، يختصر هذه الإشكالية بقوله: (إن قضية الثقافة مع وزارة الثقافة من المبكيات، ودورها مع الثقافة والمثقفين كدور ولي الأمر المتسلط.. وهذا كل ما تقوم به. المشكلة هي آليات وزارة الثقافة والإعلام التي أظنها تعود إلى ما قبل عهد الإنترنت، وثورة المعلومات التي لم تتطور.. لم تتبدل.. نفس المقص.. واللون الأسود ومفردة (يُحظر).. القضية هي تشريعية في المقام الأول، وقضية مزايدات صغيرة بالأمن الثقافي وبشكل فنتازي، لم يعد يبكي، لكنه أصبح يضحك، وكما قلت كيف تسمح عناوين في أكبر تظاهرة ثقافية كمعرض الكتاب، ثم تمنع من دخول البلد بعد أن ينفض السامر؟ وحتى يحدث شيء ما سيظل المثقف والثقافة الحائط القصير الذي يتسلقه المحتسب والجاهل والملقوف والمزايدون بالكذب).
القاص الجميل محمد منقري لم يدعها تمر مع الآخرين، فيتلقف قضية كهذه، ولا بدون أن يمهرها برأيه، ويمضي في تشخيص الرقيب والرقابة. ومما جاء فيها بقوله: (الرقابة في وزارة الثقافة والإعلام تحتاج إلى نفض ملفها، وعلى المثقفين والأدباء عدم السكوت). وفي هذا السياق لم أجد تفسيراً واحداً لفسح آلاف العناوين من قبل هؤلاء الرقباء، من أجل المشاركة في معارض الكتاب المحلية، ثم منعها طيلة العام بدعوى الحفاظ على الخصوصية والعادات! أليس في ذلك صورة أكيدة للانفصام الثقافي الرقابي الموسمي العابث؟.. إن هذا الموضوع الذي نطرحه هنا يوجب على جميع فصائل المثقفين والمشتغلين في المجال المعرفي والثقافي طرح الملف أمام الوزير والجهات الرقابية بشكل صريح، وتناوله عبر وسائط التواصل الاجتماعي.
وهنا أتذكر ما قام به الدكتور ناصر البراق الرقيب السابق في وزارة الثقافة والملحق الثقافي سابقاً من فضح عبر حسابه في تويتر قبل أشهر للتخلف الثقافي الذي ينعم به كثير من الرقباء، والتخبط والعشوائية التي ينطلقون منها عند أداء أعمالهم).
لن يتوقف الحوار في الفضاء المفتوح حول موضوع شائك وشاسع ومفتوح ومضنٍ؛ فقد أتذكر عبر تجربة طويلة معاناتي الذاتية مع الكتاب قارئاً، يجوب المدن العربية، يبحث عن الكتاب عبر معارضها الدولية، وكم سيكون مبهجاً أن يخرج لك بائع صحف على رصيف في شارع البطحاء رواية (أولاد حارتنا) لشيخ الرواية العربية من كيس إلى جواره، حينما كان لباعة الكتب والمجلات والجرائد ذلك الحضور المبهج قبل عصر التقنية، فيغسل أحزاناً اضطرتك بعد يوم بعيد جداً أن تتخلى عن كتب دفعت فيها مالاً حلالاً كم أنت بحاجة له، وتعبت في جمعه بالشقة التي سكنت فيها بعد قراءتها، أو تضطر إلى أن تتخلى عنها لرقباء المنافذ الحدودية، وستنساها إلى الأبد. أما تجربتي الذاتية ككاتب فلم أسمح لنفسي بإجازة أي رواية من أعمالي، وقبلت برضا نفس رغم عدم وصول أعمالي إلى القارئ المحلي، ووجعي الدائم من هذه الإشكالية، بألا أعرض نفسي على هذا الرقيب مطلقاً، فأتذكر صديقي الراحل الكبير - رحمه الله - الأستاذ / إبراهيم الناصر الحميدان، فقد ظلت روايته (سفينة الموتى) ممنوعة بأمر هذا الرقيب المجهول أكثر من أربعين عاماً، وكان يتأسى لحال الرواية التي شكلت مسيرة حياته الكتابية، وتركت بصمة مهمة في البناء السردي المحلي. وأختم بتلخيص المعني في هذه الجزئية من زاوية وجوه وزوايا برأي يأتي شمولياً، ويلخص الحال للدكتور حسن النعمي، بقوله: باب سد الذرائع ضيق واسعاً، فاتسعت دائرة المحرم وضاقت دائرة المباح دون دليل شرعي سوى التطرف في تخيل نتائج وهمية قبل وقوعها...
- 2 -
النبض الثاني: جاء فيما نشرته هيلة المشوح من صور قديمة، وعلقت عليها بقولها: (السعودية قبل الصحوة: السينما قديماً.. رغم بساطة المكان إلا أن المجتمع كان تواقاً للفن والترفيه). ويظهر في الصورة عدد من جمهور السينما في الرياض، وهي صورة مغرية ولافتة تماماً لما كانت الأندية الرياضية تفتح أبوابها ليلاً للشباب لمشاهدة فيلم أو فيلمين كل ليلة، فتكسب وتجعل الشباب يلتقي في مكان واحد، يسهل خدمته، وأيضاً توجيهه، فيخرج مبتهجاً مع أن محال تأجير الأفلام كانت قريبة من مواقع تلك الأندية في المربع، وكان البعض يعمد إلى استئجار أفلام للبيوت وماكينة للعرض. أتصور هيلة تردد معي حكاية رويت من الوسط النسائي، وهن كن وما زلن ملامسة السحاب أقرب لهن من الأحلام بدور السينما. إذا دار حوار بين سيدتين الأولى تحرم السينما، لما سألتها صديقتها ما هو برنامجها في زيارتها للبحرين؟ ذكرت أن من بين فقراته حضور عرض لفيلم سينمائي. فرفعت صديقتها حاجبيها علامة الدهشة والغرب؛ فقد عرفت عنها أنها تحرم دور السينما، فبررت بأنها فعلت ذلك من أجل الأولاد. ولم تجد صديقتها إلا أن تردد ساخرة بمرارة: يا ليت من أجل أولاد الشعب السعودي كله!
لما أتذكر تلك الأيام أقول فعلاً: الله، كم ضيقنا ما كان متسعاً، فحركة المجتمع الثقافية كانت هي المبادرة في غياب مؤسسة ثقافية، تضطلع بمسؤوليات بحماية حراك المشهد الثقافي مباشرة، فرأينا الأندية الرياضية مثلاً تتبنى مشروعاً ثقافياً مهماً؛ إذ تعد صناعة السينما في العالم أحد مصادر الدخل المهمة في كثير من الدول، ويبدو نفس الشيء في مدن المنطقة الغربية، وأحسبها رائدة وأكثر مدن المملكة تحرراً. ونشر الشاعر والصديق الأستاذ هاشم الجحدلي صورة أخرى متزامنة مع صورة هيلة المشوح، وكتب تعليقاً عليها (صورة خالدة لمسرح أحمد السباعي «مسرح قريش» عند إنشائه بمكة 1961، الذي بعد أخذ الموافقات الرسمية وقرب افتتاحه تم منعه وأجهض المشروع تماماً!). وهذا دليل على أن المشروع لم يُحمَ من جهة مؤسسة ثقافية مباشرة، لتحد من سطوة ما يسمى بالصحوة في هجمتها على كل مشروع ثقافي تنويري. وبالتأكيد فإن الصورتين قد بعثتا في داخلي كثيراً من الأسى وكثيراً من الأسئلة، فإذا كانت الأندية الرياضية.. وتصوروا أنها الأندية الرياضية هي المبادرة، باعتبارها حاضنة للشباب، وتتلمس رغباتهم وهمومهم، قد عمدت على رغم بساطة وضآلة أوضاعها ومقدرتها المالية، وفتحت أبوابها لتؤدي دوراً ثقافياً وتنويرياً، لم يلبث أن تم قتله في مهده، لنرضي شلة المتطرفين والمتشددين، لم يرَ الوطن منهم إلا سيلاً من الدماء لا البناء، وتصوروا كم من الزمن وكم من الآمال والطموحات تم قتلها ووأدها في مهدها بلا جدوى ولا مشروعية، وهو ما ينطبق أيضاً على المشروع المسرحي للرائد الكبير الأستاذ/ أحمد السباعي - رحمه الله - فقد قُتل وأُجهض وأُجهضت بعده مشاريع ثقافية كثيرة؛ لنظل ندور إلى الآن في ذات الدائرة بلا دليل، وأتساءل الآن: ما أهمية مبنى كمركز الملك فهد للثقافة إذا لم يستثمر، سواء للعروض المسرحية والغنائية والسينمائية أيضاً؟ أم سنظل ندور في ذات الفلك، وندفن رؤوسنا في رمال الصحراء؟
- 3 -
النبض الثالث: بثّه فينا وعياً الدكتور سعد البازعي، وهو يستذكر ذكرى رحيل الأستاذ عبد الله نور - رحمه الله - نصحو وكأنه يذكرنا بالمقولة الشهيرة للراحل الأستاذ / محمد حسين زيدان، يصف الساحة الثقافية بقوله إنها (الدفانة)، تطوي بموت الأديب نتاجه وسيرته. وجاء في تغريدات الدكتور البازعي ما يأتي:
(مرت قبل عشرين يوماً الذكرى الثامنة لرحيل الكاتب الكبير عبد الله نور الذي لُقب بشيخ الحداثيين. ومن المؤسف حقاً أن تظل أعمال كاتب بالغ التأثير مثل عبد الله نور متناثرة في الصحف، دون أن يقوم أحد، سواء كان فرداً أو مؤسسة، بتوفيرها للقراء. أرى في نتاج عبد الله نور جسراً كبيراً، عبرت به ثقافتنا المحلية من تفكير تراثي تقليدي إلى مشارف الحداثة على مستويات الأدب واللغة. جمع عبد الله نور - رحمه الله - ثقافة تراثية عريضة، حفظتها ذاكرة خرافية إلى معرفة مدهشة بثقافة العالم المعاصر، مما أثر في جيل من الكتاب والشعراء..). وختم الدكتور البازعي برابط يعرف ببعض قيمة الراحل الكبير، ليقودنا الرابط إلى (جسد الثقافة)؛ لنقرأ جملة كتابات ترثي رحيل الكاتب الكبير.
وسأنتقي بعضاً مما جاء في وصف الراحل الكبير في تلك الكتابات: (إذا قال عنه الكاتب مشعل السديري أثناء حياة الراحل، وذلك في زاويته بالشرق الأوسط قبل سنتين تحت عنوان عبد الله نور يتكلم: في مقابلة صحفية مع الكاتب والأديب الأستاذ عبد الله نور، قال: إنه رضع - في طفولته طبعاً - مما يقارب 50 امرأة؛ لذا فعندما كبر وجد مشكلة في إيجاد زوجة، فالجميع إخوته من الرضاعة.. وأنا أشك في كلامه هذا، وأجزم بأن الإحصائية غير دقيقة، والأقرب للصواب أنه رضع أكثر من ذلك العدد كثيراً؛ فظروفه، وتكوينه، وشغفه، وهيكله، وتقلّب مزاجه، كل تلك المعطيات تؤكد لنا حبه للتعدد والتجريب والتذوق. ومن المفارقات العجيبة أنه نزل من بطن أمه وأسنانه بارزة، ولا أعلم حتى الآن ماذا حل بحلمات المرضعات التعيسات؟! وعندما فطم قسراً لم يفتح عقله سوى على عنترة.. لهذا اتخذ من فروسيته مثلاً أعلى له، فصنع لنفسه حصاناً من جريد النخل، وسيفاً من خشب، وانطلق ليحارب أقرانه من الأطفال، وكأنه «دونكشوت» عندما كان يحارب طواحين الهواء)!
كثيرة هي المقالات التي أفضى بنا رابط الدكتور سعد إليها لشعراء وأصدقاء ممن خبروا عبد الله نور، واقتربوا منه، وعرفوا قدر معرفته وقراء مواهبه، ومنها ما كتب الأستاذ عبد الله بن بخيت عن الرجل الذي أُطلق عليه شيخ الحداثيين في السعودية. (ذاكرته مسافاتها محدودة: من شمال المربع إلى حلة ابن نصار، ومن طلعة الشميسي إلى المرقب. ما بعد ذلك يختلط بالأودية التي اختبأ بها الصعاليك، وبالأرض اليباب التي اخترعها تي إس إليوت، وبشوارع بغداد والأندلس والحي اللاتيني بباريس. إذا جلست معه يفرض عليك عالماً مخترعاً ممتداً عبر العصور كلها تشاهد فيه الشنفرى يجلس إلى جوار بول إيلوار، وابن عمار إلى جوار تي إس إليوت، وأبو نواس يتسامر مع ابن تيمية. ولن تستغرب إذا شاهدت بلجريف يخطب في شوارع الدرعية القديمة، وآن همند تغازل سعيد غراب. كل شيء ممكن. لا تأخذ منه حقيقة ثابتة. مجموعة متنوعة من القصائد والحكايات والقصص الشعبية والروايات والأسماء الغريبة والأوهام أقامت في داخل روحه قلعة ضخمة تحصَّن فيها بعيداً عن مرارة الواقع، صرحاً مهيباً يتساوى فيها الفشل مع النجاح، والموت مع الحياة، والصحو مع الغيبوبة، والحضور مع الغياب. كتب على قوانينها أن تزول مع أول استخدام، ثم يعاد كتابتها من جديد على أرض خاوية من أي استقرار، كان يردد قصائد فواز عيد دان دان، ثم يختمها بقصيدة عراقية يبدؤها «سيدي لا تطلق كلابك..». يتمدد في المجلس، يبسط جسده الناحل الطويل وعيناه تملآن المكان بشراسة، وأحياناً بحب، وأحياناً تجوبان بلا هدف أو تفسير!).
شكراً دكتور سعد وأنت تقرع الجرس؛ لنصحو ونتذكر عبد الله نور وجملة من رموز المشهد الثقافي. والمؤكد أننا نفتقر إلى المبادرات المؤسسية، للاحتفاء بحفظ قيمة تراث الكبار ممن مر طيفهم المبهر، وهم كثر، لم تُدون أعمالهم، فما بالك بضوء كبير بحجم عبد الله نور. وقد أشار دكتور سعد إلى أبنائه، وأرجو أن يبادر الدكتور سعد بما يملك من معارف وعلاقات إلى جعل مثل هذا المشروع ممكناً وحياً، ويختار ممن يثق بقدراتهم ومعرفتهم بعالم عبد الله نور، سواء من أبنائه أو أصدقائه، وهم كثر، ولنبدأ بما كتب عبر الرابط من تعريف بقيمة الراحل الكبير. رحم الله الأستاذ عبد الله نور. وكل عام والجميع بخير!