الانتقال من البربرية, أي الاعتماد على الصيد والثمار البرية, إلى الحضارة وإنشاء المجتمع المدني, حيث تقسيم العمل والأدوار الاجتماعية, قاد البشر لوضع ضوابط للتفكير (منطق) من أجل السيطرة على الطبيعة والمجتمع وتسخير كل ذلك لزيادة الإنتاج والتطور المتسارع.
كان التفكير البدائي يعتمد الأسطورة كوسيلة معرفية لتفسير الظواهر ومحاولة السيطرة عليها. وبعد اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات وتحسين أدوات الصيد والطهي والمسكن الثابت, أي تطور العمل, تطورت اللغة من أصوات متفرّقة إلى كلمات, أي تفكير, الذي ابتعد شيئاً فشيئاً عن الأسطورة وارتبط بالعمل.
بعد الانقسام الحاد في المجتمع إلى عبيد وأسياد, المبني على تحول ملكية الأرض من مشاعية عامة إلى ملكية خاصة وبالتالي التوزيع غير العادل لمحصول تلك الأرض ابتدأ الصراع الاجتماعي ليكون هو المحرك الأساسي للتطور اللاحق, وبدأت المطالبة بالتفكير السليم, أي الممارسة العادلة المبنية على القيم الأخلاقية التي كانت هي العرف والقانون والقضاء وكل ما يتعلّق بالتنظيم الاجتماعي, فاستحدث الأسياد بديلاً عن الأخلاق, التي لا تضمن استمرار امتيازاتهم وانشؤوا (السلطة السياسية).
هذا الانتقال من الضمير الأخلاقي كناظم اجتماعي إلى السلطة كبديل لم يتم بين عشية وضحاها, إنما عبر انتفاضات العبيد المتكررة, التي دفعت المعبد إلى الانخراط في الحركة الاجتماعية والمناداة بأسس أخلاقية لتنظيم العلاقة بين الغني والفقير. من هذا المنطلق يتضح اتهام سقراط لمجتمعه بأنه لا يفكر أي لا أخلاق له, فحكم عليه من (السلطة) بالسجن والإعدام.
لم يستطع إفلاطون تلميذ سقراط النجيب أن يفصل بين التفكير والأخلاق والممارسة واعتقد أن التفكير هو القادر على حل المعضلة الاجتماعية, فتخيل مدينة ذات مواصفات أخلاقية سامية لم يستطع تنفيذها على الأرض فبقيت في رأسه حتى وفاته.
استطاع أرسطو (المعلم الأول) فصل التفكير عن الأخلاق بوضع اللبنات الاولى لما سمي (علم المنطق), أي التفكير المستند إلى قواعد مستمدة من الواقع المادي. ثم استكمل الفارابي (المعلم الثاني) ما ابتدأه أرسطو, حيث استطاع فصل التفكير عن المفهوم المطلق, الذي لا يوجد إلا في الذهن وأكد أن التفكير السليم لا بد أن يكون مرتبطاً بالزمان والمكان, أي أن يكون نسبياً وليس مطلقاً, أي كما فعل اينشتاين في الفيزياء عندما فصل التجريد (المطلق) عن الواقع المادي, استطاع الفارابي تعميق قواعد أرسطو وتفعيلها على أرض الواقع. ثم تلاه ابن رشد الذي رفع شأن العقل وأكد أن التفكير هو فعل مرتبط بالتجربة الشخصية والاجتماعية وهو لا يخرج عن الزمان والمكان وليس مجرداً أو حيادياً ولا هو ترف تألق في رأس فيلسوف, إنما هو واجب منحاز.
على الرغم من فشل فلاسفة عصر النهضة, وخاصة ديكارت, ربط مقولات ابن رشد بقواعد واضحة كالمعادلات الرياضية, إلا أنهم أكدوا أن المنطق يجب أن يستند إلى برهان, كما أن البرهان يتطلب معطيات علمية والمعطيات تتطلب تجربة, فلا يمكن إثبات صحة التفكير أو خطئه إلا بالتجربة.
انفتحت آفاق المنطق بمجيء هيجل (1831-1770م), الذي كان مثالياً (الفكرة أساس كل شيء), حيث اكتشف أن لا شيء ثابتاً, وكل شيء في حركة تطورية مستمرة, وأن الحركة أنواع منها: الميكانيكية (انتقال الأجسام) وفيزيائية (تحول المادة إلى طاقة والعكس) وكيميائية (تفاعل غازات كالأوكسجين والهيدروجين ينتج مادة سائلة - ماء) وبيولوجية (حياة) وعضوية (تحول الأملاح والضوء إلى ثمر) وغيرها, ولكن الأهم من ذلك كله أن التفكير هو نتاج الحركة الاجتماعية, التي تسمى (صراعاً) وأنه منحاز لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك وفي تطور مستمر كما الظواهر الأخرى, واستنتج من ذلك أن الفكرة المطلقة ذاتها متطورة.
مبدأ الحركة والتطور الدائم والصراع أسماه هيجل (الديالكتيك), الذي ترجم خطأً للعربية (جدل), حيث إنه - أي هيجل- كان موضوعياً, أي أنه يؤمن بإمكانية سبر غور الظواهر واكتشاف منشئها وتطورها ونهاياتها, ولم يكن من الذاتيين, الذين قالوا إن الشيء في ذاته ولا يمكن معرفته, كما ذهب الجبريون الذين عزوا كل شيء للقدر. لقد نادى هيجل باتخاذ الديالكتيك منهجاً للتفكير, وتناول الظواهر الطبيعية والاجتماعية ضمن صيرورة الواقع المتغيِّر وليس خارجه وأطلق على ذلك تسمية (منطق).
إذن المنطق عند هيجل هو منهج وليس نوعاً للتفكير, وهو نابع من الواقع وليس اقتراحاً يمكن قبوله أو رفضه, وهو اكتشاف وضع العلوم التطبيقية والإنسانية في عملية معرفية متنامية وصلت في عصرنا الحالي إلى مستوى لم يتوقّعه هيجل ولا غيره من الفلاسفة.
استكمل تلاميذ هيجل مقولاته عن المنطق وأكدوا أن التفكير هو نتيجة للتجربة (الواقع) وليس العكس, والمنطق ليس مسطرة لقياس التفكير, إنما هو منهج العملية المعرفية برمتها ابتداءً بالملاحظة, التي تفضي إلى فرضية أو فرضيات تخضع بدورها للتجربة كي تتحول إلى نظرية, التي تعود وتخضع مجدداً للملاحظة وتستكمل دورتها التالية.
العملية المعرفية الديالكتيكية ليست في حركة دائرية, وكأنها تبتدئ بنقطة ثم تعود إليها, إنما بحركة على شكل حلقات متنامية بشكل حلزوني متصاعد, أي أن النظرية في مرحلة ما من التطور هي استكمال لما قبلها والأمر ينسحب على الملاحظة والفرضية والتجربة.
لو تناولنا مثالاً على الحركة المعرفية كالخوارزمي (847-781م) الذي ابتكر الخوارزميات أو (اللوغاريتمات) بناءً على نظرية فيثاغورس(مربع الوتر = مجموع مربعي الضلعين القائمين)، حيث واصلت اللوغاريتمات حلزونها المتصاعد حتى تم اختراع الحاسوب, الذي فتح فجراً جديداً للبشرية جمعاء.
على الرغم من أن هيجل يعتبر مؤسس علم المنطق الحديث (الحداثة), إلا أنه فلسفياً وضع منظومة فكرية (ناجزه) لتفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية خلافاً لمبدأ الديالكتيك الذي نادى به, وذلك لأنه كان يعتقد أن المعرفة هي نتيجة للتفكير وليس التفكير والمعرفة كليهما في وحدة تفاعلية لا تنفصم, حيث يؤثّر كل منهما في الآخر في عملية متنامية هي نتيجة لتراكم التجربة, وإلا لماذا لم يستطع الخوارزمي اختراع الحاسوب؟ هل كان ينقصه التفكير؟ ولماذا لم يستطع أرسطو اكتشاف الديالكتيك؟
أدرك هيجل أنه عظيم بتفكيره وجوارحه, ولكنه لم يدرك أنه هو ذاته كفرد ليس إلا نتاجاً للتطور الاجتماعي منذ ما قبل التاريخ حتى عصر النهضة وفقاً للديالكتيك, وأن عدم ذكره للفلاسفة والعلماء المسلمين في رسائله حقداً, لا يعني أنه ليس نتاجاً لهم. وهذا لا يعني أبداً أن هيجل ليس له دور في العملية المعرفية, فهو استطاع الإلمام بكل التراكم المعرفي في عصره وتطويره.