تمنحني باريس ما أفتقده في عواصم عدة من العالم: التنوع الثقافي والفني والأدبي. كأنها مدينة بوجوه عدة، ولا بد للزائر أو المقيم أن يجد فيها الوجه الذي يبحث عنه. أن يقام معارض عدة في الموسم نفسه ليس بجديد على العاصمة الفرنسية، لكن أن يقام معرض لم ينظم سابقاً في أي بلد آخر من العالم، ويزوره الآلاف، ويخرجون منه قائلين إنه معرض فريد واستثنائي، لهو صفة باريسية بامتياز ودون منازع.
الاستثنائي هو معرض الحج الذي يقيمه معهد العالم العربي بالتعاون مع مكتبة الملك عبد العزيز العامة. يبدو، ولوهلة أولى، أن المعرض موجَّه إلى الزائر الغربي، وتحديداً الأوروبي فحسب، لكنه في الحقيقة يشمل الزائر العربي أيضاً، الذي أسوة بالغربي قد لا يعرف الكثير عن تطور الحج ودوره التاريخي كنقطة التقاء ثقافي واجتماعي. معرض استثنائي من حيث فرادته وريادته وانفتاحه؛ إذ يقدِّم نشوء وتاريخ الحج من خلال المقتنيات النادرة والصور والكتب والنقوش الكتابية والمخطوطات والأواني واللوحات والقطع الأصلية التي تشكِّل جزءاً مهماً من تقاليد الحج وطقوسه.
عبر صوره ولوحاته وقطعه الفنية والدينية الفريدة، يريد المعرض إيصال رسالة إلى العالم، رسالة تقول إن الحج ليس أداء دينياً فحسب، بل فرصة لقاء ثقافي واجتماعي أيضاً. رجال دين وفقهاء وأئمة وعلماء وتجار وسياسيون أو مؤمنون عاديون يزورون مكة لتأدية فريضة الحج، ويحوّلون المدينة لبضعة أيام كل عام إلى ما يشبه عالما مُصغَّراً. في هذا العالم المُصغَّر يتم تبادل الثقافات والصداقات والتجارة. قدّم المعرض الحج بأبعاده المختلفة باحثاً في نشأته التاريخية التي تعود إلى ما قبل الإسلام. فالحج وُجد قبل الإسلام بمئات السنين كطقس ديني، خاصة في فترة النبي إبراهيم الخليل، ثم بدأ المسلمون بالحج إلى مكة ابتداء من عام 631 بعد فتح الرسول لها وتدميره الأصنام والأوثان. أراد القيّمون على المعرض، سعوديون وفرنسيون، تقديم الحج ليس فقط عبر تطور تاريخي لأحد أركان الدين الإسلامي الخمسة، بل أيضاً كرسالة إنسانية وتجربة فردية وتأمل ديني ومصدر للإلهام الفني والتبادل الثقافي بين الشعوب. تمّ ذلك عبر إبراز أوجه الحج العديدة من خلال عرض قطع فنية تعود إلى العصور الوسطى، كذلك عدد كبير من المقتنيات النادرة والثمينة والإضاءات والأقمشة والزخارف وقطع مهمة أتت خصيصاً من متحف الحرمين الشريفين لتُعرض لأول مرة في باريس، أهمها غطاء الحجر الأسود وباب منبر المسجد النبوي الشريف وكسوة باب الكعبة. وقد تكون رحلتها تلك هي الأولى خارج موطنها. لم يستثنِ المعرض الجانب الحديث لتاريخ الحج، بل أبرز علاقته بالحاضر عبر الأعمال التشكيلية لفنانين سعوديين تتضمّن نظرتهم الخاصة إلى الحج، إضافة إلى عرض خرائط هندسية وخطط معمارية لتحسين أماكن الحج وإقامة الحجاج. لم ينس المعرض أن يقدم النظرة المقابلة، أي نظرة الغربيين، من خلال الفن الاستشراقي وأدب الرحلات واليوميات المدونة لأدباء زاروا العالم العربي. كأن جمعاً إنسانياً أحدثه المعرض بين ضفاف العالم شرقاً وغرباً.
في تجوالي في معرض الحج لم تتركني كلمات الروائية السعودية رجاء عالم في روايتها الأخيرة «طوق الحمام»، التي سبرت فيها غور العلاقات المكيّة بكثير من العمق والنضج. قلت لنفسي هذا ما كان ينقص المعرض: جانب أدبي تُعرض من خلاله الكتابات الحديثة للأدباء العرب الذين جعلوا من مكة مكان الرواية الأساسي، وقدَّموا الوجه الاجتماعي والتاريخي للمدينة كجزء مهم من السرد.
** ** **
* يستمر معرض الحج في معهد العالم العربي في باريس حتى 17 آب 2014