يسلمنا البحث الموسوم بـ(خطاب الجنون) للدكتور أحمد بن علي آل مريع إلى ربوة من الفناء الخلفي للعقل، لا قرار فيها ولا معين، حيث يسكن اللاوعي بما هو عليه من حالة الغياب والمنطقة الرمادية المسماة بـ(الجنون)؛ إذ فقدت شرعية النظر، وفكت من عروة الحضور الذهني في دورة الحياة؛ فلا خلاق لها في رحاب الوعي ولا في المدى المحسوس إلا قالب الجسد حتى صار خارج نطاق الخدمة الإنسانية، وانتفت عنها الممارسة الخلاقة للآدمية.
تلك إشارات تبيح لنا إصدار الأحكام والنتائج التي نصت عليها السطور الماضية بوعي أو بدون وعي نتيجة الجهل بالظاهرة، وغياب المستوى السلوكي المقبول للتعامل مع المجنون، أو على الأقل عده إنساناً موجباً قبل تصنيفه في خانة السالب من الآدميين، ولاسيما حين يخرج العقل من حالة التأمل والاستبصار الممنهج في الآفاق.
وبالنظر في الكتاب الذي أُهدي لنا من صاحبه على سبيل التواصل، ألفينا غير ما نصت عليه أفكارنا؛ إذ تبين لنا بعد القراءة أن الأمر أوسع مدى من أن يدرك حسياً أو معنوياً فيحكم عليه أو يؤول إلى نتيجة صارمة، وأن اجتراح النتائج أو إصدار الأحكام في مقامات الوصف غير المبرر يعوزه التأمل والدراسة العلمية لمشكلة هي بالأساس إحدى اللوازم العلمية التي ينتجها العقل قبل الجنون؛ لأن فيها كل فنون المغامرة والتضحية.
ومن هذا المنطلق اختمرت الفكرة، وتسورت الوعي عند الباحث الدكتور أحمد آل مريع في لحظة فارقة، تضع نفسها في مستوى الحذر؛ لينطلق من حقل مليء بالثنائيات المتضادة والمتباعدات وكل ما له تعلق مخصوص بالمتناقضات على نحو ما يجري بمقتضى ثنائية الحضور والغياب، وما تحمله من دلالات الخفاء والتجلي، وما يسكنها من التناقضات بين المحسوس والعقلي، وكذلك الوعي واللاوعي، فضلاً عن الشعوري واللاشعوري، الواقعي والمتخيل الذهني، الحقيقي والوهمي، تؤول في نهاية المطاف إلى ثلاث دلالات رئيسة كبرى، هي: الخفاء، المغايرة، والعنفوان. وهي التي نص عليها المعجم اللساني عند العرب على نحو يجعل المثول أمام العقل في سياق التأمل ضرورة ذات سلطة، يتفيأ ظلاله العقلاء، وتجعل الوقوف أمام الجنون في سياق التمثل النقدي ضرورة خاصة يتنفس فيها الوعي معالم البصيرة في مدارج السالكين بما يحقق المعرفة الرشيدة والخطاب التنويري العتيق. كل ذلك نال حظه من البحث الرصين والدقة ورصد الظاهرة بكل أبعادها في ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط. ولوج في عالم سحري مدهش من الرؤى والأفكار والمعلومات، كلها تؤكد في جهد الباحث الوجه الثقافي في تشكيل مفهوم الجنون، وتستحيل في المنطوق الثقافي إلى وسيط معرفي يتموضع بين الذات المدركة والعالم الخارجي.
كتاب يتسم بالرصانة وبُعد النظر المكتوب فيها، كل كلمة تعرف جارتها، وكل عبارة تتلازم بانسجام وأخواتها، يسود بينها الوئام. إنها آراء ورؤى تشف عن جهد كبير في الرصد والمثاقفة والتحري والتسجيل النقي لمنطلقات الظاهرة وأبعادها الثقافية.
ومن ثم يوصف «الجنون» بهذا المسمى انطلاقاً من وجهه الثقافي، ويتم توظيفه توظيفًا متحيزًا في أكثر الأحيان لصالح النموذج العالم/ المؤسسي أيًّا كان مجال حضوره وفاعليته، بصفته سلاحًا لغويًّا، وموقفًا اجتماعيًّا، وتحيزًا معرفيًّا، يستبطن السلطة لعزل المخالف/ المتجاوز/ المستغلق، ونفيه خارج دائرة العناية والاشتغال، أكثر من كونه وصفًا حقيقيًّا لنقص في الكفاءة.
رشيد وحوار تنويري تلك إشارات تنير المسلك، وتضيء المسار في الطريق الذي سلكه العلماء العرب من طرائق متعددة في التناول والمعالجة، بما يتوافق وطبيعة الدراسات اللغوية والأدبية قديماً، فإن اختلف المنهج فإن الممارسة النقدية للمصطلح حاضرة في ذاكرة النقاد والدارسين، غير أن آليات الممارسة تكاد تكون مفقودة.
لقد عني بالحديث عن صوت المجنون وصورته، واجتهادات ثقافية تتنوع فيها العلاقات والقيم السالبة والموجبة في الآلية والممارسة الإجرائية.
لذلك فإن تلقّي الثقافة الرسمية للجنون يتمّ من خلال تحديد موقعين مؤسسيين فاعلين، هما: المؤسسة اللغوية، وما سمّاه «منطقة المفاهيم»؛ إذ إنّ الموقع المؤسسي الأول: تؤثر اللغة في طريقة رؤية أهلها للعالم، وفي كيفية مفصلتهم له، إذ يتأسس بالمفاهيم في منطقة تمارس من خلالها الثقافة العالمة وحضوره المقيد والمعلن في الخطابات العلمية والمعرفية وتوزعها لاستهلاك على نطاق واسع، يلف في تصورها أبجديات التصور العقلي ومظاهر العقلانية؛ لأنها تمثل معرفي للتجربة الحضارية والنموذج الثقافي المجيد صياغة لمسافة.
وأفضت به هذه الأفكار إلى رؤية مظانها أنّ الممارسة في كلا الحقلين تصدر عن القوالب الإدراكية ذاتها، التي قدمتها أو صنعتها كلّ من مؤسسة «اللغة» ومؤسسة «المفاهيم»؛ إذ وفرت للممارسة الخبرة والمرجعية الضرورية، التي تهيئ لاتخاذ المواقف الثقافية اللازمة حيال الجنون، وحيال ما يصدر عن المجنون، وتحقق بذلك وحدة و»انسجامًا معرفيًّا» في تلقي الجنون.
أما الجنون في الممارسة الأدبية فإن تلقي الجنون - حسب الباحث آل مريع - يتركز في ثلاث صور، تتجلى في معارض التلقي المختلفة. وقد تتداخل هذه الصور الثلاث، وقد تتمايز وتستقل، لكنها تتواطأ جميعًا- حال استقلالها أو تداخلها- على نفي الجنون كوجود ثقافي (في الثقافة العالمة) بالإعراض عن سماع المجنون كلية.
إن الحديث عن الجنون بوصفه ظاهرة ثقافية أو اجتماعية أو في الممارسة الأدبية حديث لا ينقطع؛ فهو موصول بكل المؤثرات المعرفية.
صفوة القول: إن الباحث قد أبلى بلاء حسناً في توصيف المصطلح والظاهرة، وأجاد في العرض والمقاربة والمعالجة بأسلوب يعكس القدرة الفائقة في تلقي الظاهرة واستيعاب أبعادها الثقافية وآفاقها الإبستمولوجية.