Saturday 20/12/2014 Issue 456 السبت 28 ,صفر 1436 العدد

الشَّبورة .. رواية المرايا العاكسة!!

(1)... تخيل أنك أمام مرآة عاكسة بطول وعرض جدارك المنزلي, قف عندها وتأمل ذاتك.. انكساراتك.. خبايا الزمن على محياك.. تجاعيد الأرق حول عينيك ثم اترك الواقع وادخل في الخيال.. اغمض عيونك.. وتذكر ذلك النص الشعري المنشور في ديواني «أوراق الزنجبيل ص ص39- 41»:

« أغلق عيونك /لا تنم/ انظر إلى ذاتك /وانظر إلى داخلك/ إلى نفسك المدلهمة حزناً / وجرب أن تراها بلا بصرٍ/بلا نظر/ جرب أن تراها بعقلك / بصيرتك/فسِّر ماتراه إلى واحات شعر / أو دع الراوي: سوف يحكي مزيداً من الحكايات المملات / واشرب بعدها نخب همك وحدك / لن تبكي الأرض من أجلك / لن تقطع السحب ماءها /والرياحين لن تعدم الشذى / فاحتمل نفسك المدلهمة حزناً/ أنت من صاغ هذا النشيد/ وأنت الذي وحدك اليوم تلقى الجواب!!»

(2) «الشبورة» - واقعاً جغرافياً - تعني أحد مظاهر الطقس الذي يفجأ الأرض في المناطق البحرية في فصل الصيف ويسمى علمياً (الضباب) ويسميه الإخوة المصريون «الشبورة»!! ولأن البيئة المكانية للرواية هي مصر فقد اختار الروائي أحمد الشدوي هذا المسمى لروايته الصادرة حديثاً عن دار المناهل عام 1434هـ 2013م.

(3) يتكئ (أحمد الشدوي) في روايته على تقنية (الفلاش باك) السردية ويسميها النقاد «الاسترجاع أو الاستحضار» والتي من خلالها يتذكر الراوي أحداثاً مرت به, وشخوصاً عايشها, وزمانات وأمكنة صنعت منه كائناً سردياً.

ومن هنا فإن الرواية تقوم على هذا المعطى موظفاً في ذلك ضميري المخاطب والأنا, ليستقصي الأحداث والأخبار والوقوعات عبركل شخوص الرواية وفضاءاتها.. وهذا يعزز البناء الدرامي في الرواية ويضيف لها جاذبية تدفع بالقارئ للغوص في مفازات الرواية ومتابعة أحداثها.. والراوي - في كل ذلك - يستخدم هذه التقنية الكتابية متنقلاً من زمن وأحداث إلى زمن وأحداث أُخر بكل إتقان وحرفية ظاهرة وجاذبة..!!

كما يتكئ الشدوي في هذه الرواية على العتبات الإحالية والتي أسميها «كواشف نصية لكمونات متنية» وهي مقتبسات نصية من مرجعيات مختلفة عربية وأجنبية, شعرية وفكرية, فلسفية واجتماعية, وهي هنا بمثابة عتبات عنوانية لها دورها الكاشف داخل المتن الروائي.. وبالتأكيد فهذه العتبات العنوانية أو الافتتاحيات التناصية تؤدي دوراً مهماً في تلقي النص والتواصل مع إحالاته وإشاراته الضمنية, وهذا ما يُسمى بالوظيفة الإيحائية / الاستباقية المهمة في توجيه القارئ, وكذلك توحي هذه الافتتاحيات التناصية بالوعي الثقافي لكاتب الرواية وانفتاحه على الفكر الإنساني والعالمي.

وبعد رصد هذه المقتبسات الافتتاحية وجدناها (12 مرة) اختار لها الروائي الشدوي الفصول التالية. (26,24,21,15,13,10,9,7,6,4,3,1) وذلك (مما مجموعه 30 فصلاً) للرواية بأكملها.. ولعل ذلك - تأويلياً - يؤكد أن أهمية الرواية تكمن في هذه الفصول فهي الدالة والحاثة على تتبع النص ومنعطفاته التي يؤطرها البعد الفلسفي والإنساني في مساراته المتعددة.

(4) يقوم (فضاء الرواية) على مساءلة الواقع السياحي في بلدة مثل (القاهرة) ودور السائح السعودي وربما الخليجي وذلك ضمن خطاب نسوي يعرِّي ذلك الواقع ويسائله بكثير من الحسرة والألم على ما تؤول إليه كثير من الممارسات القبيحة لذلك السائح المتجرد من إنسانيته وأخلاقياته:

«هؤلاء يريدون الحلال في كل حرام خارج بلدهم ما يحرمونه هناك يحللونه أو يستحلونه هنا, لاعرض لهم إلا في بلدهم, لاشرف لهم سوى الشرف بين قبائلهم, أظن أن العيب أثقل عليهم هناك فباعوه هنا, قساة في بلدهم وهنا أفاعٍ ملساء ناعمة, أرض ينامون فيها فيتغطونها, وأرض يتغوطون فيها فيهملونها» ص213.

الرواية - أيضاً - تطرح واقع القهر والاستلاب الذي تعيشه الأنثى في بلد سياحي مثل مصر, في ظل فضاء ذكوري حافل بكل ما هو مستعبد للمرأة جسداً وذاتاً, مكاناً وخصوصية, إنساناً وروحاً.. بحيث تتحول الأنثى إلى كائن مستثمَر, مستعمَر, وبطريقة لا أخلاقية قد تصل فيه الممارسات الجنسية مع فروع غير معروفة أنجبها ذلك الأصل دون أن يعلم!!

(5) تتنامى (جماليات الرواية) من خلال فكرتها وموضوعها غير المسبوق, ولغتها الشعرية المتمردة التقريرية المباشرة ذات الصورة البلاغية والإبداعية, والتكنيك والإيقاع والمجازات السردية وثنائيات الخفاء والتجلي.

كما تقوم تلك الجماليات عما يُسمى بـ «التناص» مع مقولات وخطابات متعددة.. وانفتاحها على آليات كتابية / سردية جديدة فيها المفارقة, والتنامي, وتعدد الأصوات.. إضافة إلى قدرة السارد على ملامسة الأحداث الحكائية بشيء من الجرأة والفضائحية في البوح الأنثوي, ومناطق الحكي المسكوت عنه وذلك عبر خطاب الغواية والشهوة والإغراء الجنسي.

كما تقوم تلك الجماليات على كثير من الحس الإنساني والجرأة في الطرح, والتناص مع المسكوت عنه, ورصد التجاوزات الاجتماعية عبر الاستعارات الموسعة, والصياغة التي تحتفي يالمنلوج الداخلي والحوارات الأسلوبية, والبناء الدرامي, وتوظيف الزمان والمكان, واللغة المحكية / الشعبية: «قطعت تفكيري الذي لن ينتهي وقلت:

- بعد قناعتك بعدم عودته أظن أنك بدأت تفكري بهذه الطريقة من الزيجات.

- تعني الزواج من كهول الخليج؟

- نعم

- لسا بقول يا مسهل أنت الأول (ضحكت) ح ابدأ أحسب من دا الوقت

- يعني مابتعرفي شي عن هذه الزيجات؟ «ص 160.

وأخيراً تكن جماليات الرواية فيما يسميه الناقد المغربي سعيد يقطين: البناء الدائري للعمل الروائي وهو الانتقال في الزمن ومعاودة النظر في التحولات الطارئة على الأحداث والشخوص, الأمر الذي يجعل المتلقي/ القارئ يكتشف عناصر جديدة في كل مرة لم يسبق له مثلها.. (انظر عكاظ 2/5/1435هـ).

وهذا ما يمكن أن نجده شخصيات الرواية بدءاً من منور الدافي / حامد الرباعي, مروراً بعلياء, وآمال عبد العاطي, ونور, وانتهاءً بالراوي العليم (غالب).. وما نجده في زمن الرواية الممتد بين زمن استرجاعي استذكاري, وزمن نفسي يعيشه السارد / الراوي العليم.

(6) وبعد هذه الالتفاتة النقدية إلى مجريات المتن الروائي الذي بين أيدينا ونختفي به قراءة ومقاربة, نقف عند أول فصول الرواية المرقوم (1) إذ تتجلى فيه الكثير من تقنيات الجماليات الافتتاحية حيث يأخذنا المؤلف / الراوي إلى سوريا ثم لبنان حيث ذلك الشخص السعودي المجنون, الذي دارت به الدنيا وهو يحمل مذكراته عن رحلة قام بها إلى القاهرة منذ زمن بعيد وأراد أن ينشرها فلم يتهيأ له ذلك إلا مع هذا الكاتب, فطلب «أن أعيد صياغتها دون تحريف ونشرها» ص 10 وفي الفندق فتح هذه الأوراق / المذكرات وقرأها...

وها هو ينشرها نيابة عن صاحبها!!

الجميل في هذا المدخل الجاذب هو التقنية الكتابية, أو ما نسميها «لعبة الحكي», التي يحاول فيها المؤلف أن يتخلص من نسبة العمل إليه, ويحيله إلى شخصية ساردة أخرى, وماهو إلا ناقل أو محرر أو كاتب بالنيابة!!

شكراً لك أخي أحمد الشدوي المؤلف الحقيقي, وشكراً لـ (غالب) المجنون التائه في حواري سوريا ومرتفعات بيروت, المؤلف الخفي والراوي العليم!

د. يوسف حسن العارف - جدة