ظهر لنا من المقالة السابقة وغيرها أن كلمة تاريخ مرادفة لكلمة أخبار، وبناء عليه أرى أن كثيرًا من التاريخيين ليسوا أكثر من نَقَلة أخبار، يرصدون ويقيّدون ويجمعون ويوثقون، وهذا لا يعيبهم؛ فعملهم هذا مهم وجليل ولابد منه للبشرية.. مع استثناء بعضهم المتمكنين من الفلسفة، الذين يؤدون أدوارهم كفلاسفة تاريخ، بجانب دورهم الأصلي المتمثل في التأريخ للأخبار وتدوينها وتتبعها وحفظها.
إن العلاقة بين المؤرخ والفيلسوف قوية بلا جدال، فعندما يتناول المؤرخ واقعَ دولة أو مجتمعٍ ما، فإنه يستعرض ويجمع وينقل كلَّ ما حدث فيها كما هو، أي أن عمله هو الاجتهاد في كشف صورة ذلك الواقع.. ثم يأتي دور فيلسوف التاريخ، الذي يتأمل في ذلك الواقع، محاولا بل باذلا كل ما بوسعه ليسبغ التفسيرات والمعاني المترابطة لكلية هذا الواقع.
ولكن هذه العلاقة التي تجمعهما -رغم متانتها- تعطي للفيلسوف مساحات أشسع وأوسع، بناء على أن له هدفًا يخضع له هو وحده دون المؤرخ، وهذا الهدف هو المعنى الذي يحمله التاريخ. إن المؤرخ لا يخضع لسلطة هذه الغاية التي يخضع لها الفيلسوف إلا ما ندر، أي إلا إذا كان يتعامل مع التاريخ من زاويتين هما التأريخ والفلسفة، وهذا موجود عند كثير من المؤرخين كما قرأتُ مرارًا.
إن استيعابنا للماضي وكل ما حدث في التاريخ الإنساني بصورة شمولية عامة كليّة، يجعلنا نتعرف على النقاط العامة والقواسم المشتركة المؤثرة بوضوح فيه، والتي نستطيع أن نسميها (قوانين وعوامل حركة المجتمعات). مع ضرورة الانتباه هنا إلى أن كثيرًا من المهتمين بهذا الموضوع قالوا كلامًا كثيرًا ألخّصه في: «حوادث التاريخ فرائد حصلت في أزمانها بظروفها ولن تتكرر».
ويجب أن نتساءل بناء على كلامهم: ما هي الفائدة إذن من الوصول إلى القوانين والعوامل الأساسية التي أثرت في تاريخ الأمم والشعوب الماضية؟. والجواب بإيجاز هو: نعم، لن تتكرر معركة أو غزوة بنفس الصورة؛ ولكن ظاهرة الحروب مستمرة، والشروط التي تؤدي إلى نشوبها بشكل عام متقاربة.. نعم؛ لن يتكرر سقوط دولة سقطتْ قديمًا، ولن تتكرر قصصُ الاستعمار والاستقلال السابقة -مثلاً- بحذافيرها مستقبلا؛ ولكننا أمام عدد من الأسباب والتعليلات والشروط التي تحكم سقوط الدول، وتتحكم في ظاهرتي الاستعمار والاستقلال غالبًا.. وهكذا دواليك مع بقية ظواهر وأحداث التاريخ، التي يرتبط استمرارها وصوره بإرادات البشر وبوصلات تلك الإرادات.
وبكل صدق لم أجد طريقة أكثر ترسيخًا لمعنى فلسفة التاريخ في ذهني من تأمل التعريف المختصر البليغ الذي قال به الفيلسوف الألماني المثالي الكبير هيغل، حيث يرى أن فلسفة التاريخ لا تعني شيئًا آخر سوى دراسة التاريخ من خلال الفكر. ولا شك أن هذا التعريف منبثق أو متفرع عن أحد تعريفاته البارزة للفلسفة، حيث يرى هيجل أن الفلسفة هي التفكير الذي ينتظم الدنيا بما فيها.
وأقول بناء على كلام فولتير الوارد في المقالة السابقة، وبناء أيضًا على كلام هيجل الوارد أعلاه.. أقول بناء على كلامهما: إننا نستطيع تبسيط معنى فلسفة التاريخ بأنها تأمل التاريخ بفلسفة، أي قراءة كلِّ أحداث ووقائع التاريخ بنظارة فلسفية، إن صح التشبيه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية مبسطة أيضًا: هي إعمال العقل بكل قوته للربط بين كل ما يرد في التاريخ من قصص وأخبار وغيرها، بغية الخلوص إلى العوامل الكبرى البارزة المؤثرة فيه أو المحركة له.
وفي الحقيقة لابد أن أشير إلى نقطة اتفق عليها كثير من الباحثين والأساتذة الذين رجعتُ إلى مؤلفاتهم الكثيرة، فوجدتها مكررة بعدة صياغات، ولا أظنهم اتفقوا -وهم كثر- إلا على حقيقة هامة، وهي أن ابن خلدون هو أول من شرع في قراءة التاريخ قراءة مختلفة، أي بخلاف ما كان يُعرف قبله من أن التاريخ يُدرس على أنه حوادث متفرقة ومتتابعة، حيث حوَّل ابن خلدون الأمر، وجعل التاريخ مجالاً للاستقراء والاستنتاج والتحليل؛ لهدف كبير عمل هو عليه بوضوح، وهو استنباط أو استخلاص القوانين التي تحكم الحراك التاريخي.
إن هذا الأمر الذي قام به ابن خلدون عظيم بلا أدنى شك؛ لأن هذه القوانين إذا نجحنا وأحسنّا استخراجها، سنتمكن من استخدامها في مجالات وميادين أخرى متفرقة، تلامس بشكل مباشر التنبؤ مثلا بمستقبلنا التاريخي كبشر، وبأشكال أخرى قد لا تكون مباشرة، في تخصصات عديدة أخرى ذات علاقة بالتاريخ.
لقد اختصر علينا الدكتور رأفت غنيمي الشيخ كثيرًا من الكلام عن فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، حيث أثبتَ بكلامٍ متعدد الصياغات أن ابن خلدون كان ينظر إلى الدولة كنظرتنا للكائنات الحية، فهي كائن يولد ويعيش ويشيخ فيموت، فللدولة عمر كعمر الإنسان وغيره من الأحياء.. وكلام الدكتور صحيح، فقد قرر كثير من الباحثين أن السؤال الكبير الذي ظل يشغل ابن خلدون طيلة أيامه التي قضاها مع التاريخ ووقائعه وتصحيح أحداثه.. هو هذا السؤال الموجز: كيف تقوم الدولة؟ وكيف تسقط؟ والذي بناه من خلال رؤيته لها -أي للدولة- باعتبارها شبيهة للكائن الحي.
لقد وضع ابن خلدون للدولة أطوارًا تمرُّ بها، فهي في البداية تقوم أو تؤسس على (الغلبة والقهر) والاستيلاء على الحكم عنوة.. ثم تمر بطور الاستبداد والتنكر للعصبة والاستفراد بالسلطة.. ثم فترات الراحة والنعيم والدعة والاستمتاع بقطف ثمار الحكم والسيطرة.. ثم أخيرًا تنهار وتنقرض وتسقط، بسبب البذخ والفحش وإساءة التصرف المتجسد في الإسراف والتبذير والعبث.
ودعونا الآن نطبق بمثال بعض ما ورد في كلامنا السابق، مثلا: انهيار الأمم؛ أو لنقل: «سقوط الدولة». كيف يحدث؟ متى تسقط الأمم وتنهار الحضارات؟ ما هي العوامل التي إذا اجتمعتْ سقطتْ أمة أو حضارة من الأمم أو الحضارات؟!
أعجبتني جدًا إجابة أرنولد توينبي عن السؤال السابق، حيث عزا سقوط الحضارات إلى ثلاثة أسباب رئيسية، أولها ضعف القوة الخلاقة المبدعة في الأقلية الموجهة وانقلابها إلى سلطة تعسفية، وثانيها تخلي الأكثرية عن محاكاة وموالاة هذه الأقلية، وآخرها الانشقاق والصراع وضياع وحدة كيان المجتمع وتفتتها.
وإذا وجهنا السؤال السابق لغير توينبي، فسنجد إجابات فلسفية عميقة، لا تقل تميزًا عن إجابته، رغم تفاوتها المرتبط بتباين توجهات أصحابها، ومن ذلك مثلا إجابة مالك بن نبي، الذي أرجع سقوط الحضارات –في كتابه وجهة العالم الإسلامي- إلى عامل رئيس، هو فقدان القيم الروحية والفضائل الخلقية، باعتبارها قوة جوهرية في تكوين الحضارات، فأينما توقف إشعاع الروح، توقف -في نظره- وخمد معه إشعاع العقل، إذ يفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان. وقسْ على ذلك بقية الأسئلة، فعندما نتساءل عن قيام الحروب مثلا، نجد أن كثيرًا من فلاسفة التاريخ قد استخرجوا -كلّ باجتهاده ونظرته- العواملَ الأساسية والأسباب المكررة التي علمهم التاريخ أن اجتماعها أو غالبها يؤدّي إلى الصراعات والمعارك والحروب الطاحنة.
وهناك نقطة جيدة أودُّ أن أختم بها هذا الجزء، وهي أن المتطرفين والظلاميين من رجال الدين يتغيرون دائمًا رغمًا عنهم، إذا أجبرهم الناس على التغيّر، ومن ذلك أن رجال الدين المسيحيين في عصر النهضة، تأثروا بالتغيرات الفكرية والفلسفية التي حصلتْ في عقول أبناء مجتمعاتهم، أو أجبروا بسبب تلك التغيرات على تغيير مسارهم وطريقة تعاملهم مع الناس والحياة والأشياء والعلوم والمجالات الكثيرة المختلفة، ويأتي على رأس ذلك تغيرهم الكبير في التعامل مع التاريخ، فقد تحسّن تعاملهم معه عن تعاملهم في العصور المظلمة السابقة، حيث أبدى عددٌ من الرهبان -مثلاً- في هذا العصر اهتمامًا مميزاً بدراسة التاريخ دراسة فيها كثير من التفكر والتأمل والعقلانية، وعملوا على تدوين حوادثه على أسسٍ علمية موضوعية، تختلف اختلافاً جذرياً عن طريقة الرهبان السابقين العابثين، وقد نجحوا في مهمتهم، وتمكنوا من الكشف عن كثير من الحقائق التاريخية المغيّبة، ومسحوا الصورة الزائفة المشوهة المتداولة.
ومع هذا استمر بعضهم في ضلاله القديم، واستمر عبثُ حواشي الملوك أيضا، الذين كانوا -كعادتهم في مختلف العصور- يزوّرون كثيراً من وقائع التاريخ تزلفاً وتقرباً للملوك وطمعًا في رضاهم.. وبذلك ظلَّ التاريخ -رغم تحسن حاله- فرعاً ثانويًا قليل الأهمية من فروع المعرفة، بسبب رجال الدين وحاشية الحكام، حتى جاء منتصف القرن السابع عشر، فزاد التحسن، وتغير الوضع كليًا، وبدأ العقلانيون يضخون في التاريخ الدماء العلمية والموضوعية بشكل أكبر، فازدهرَ وازدهرتْ معه فلسفة التاريخ، وهكذا استمر الحال في التغيّر والتقدم حتى بلغت فلسفة التاريخ مكانة كبرى في عصر التنوير.
نتوقف هنا الآن، ونواصل الحديث في مقالة السبت القادم.