7- (من التقوُّل إلى التدليس)
رأينا في الحلقة السابقة تعامل (الدكتور كمال الصليبي) مع اقتباساته من كتاب (ابن المجاور)، (تاريخ المستبصر)، وكيف أنه ظلّ لا يهتمّ إلَّا بتشابه الحروف بين الأسماء، ثمّ لا يسأل عمّا وراء ذلك. وقد أضاف، تعليقًا على ما اقتبس هناك، قائلًا: (ويستخلص من كلام ابن المجاور أن الآشوريين اقتلعوا أسباط إسرائيل العشرة من مدن تهامة عسير وقراها...). ولا ندري من أين استخلص هذا من كلام (ابن المجاور)؛ فقد ذكرناه في الحلقة السابقة، ولا علاقة له بمزاعم الصليبي، بل هو يناقضها؟ ولقد أكَّد ابن المجاور في موضعٍ آخر من كتابه أيضًا أن أولئك اليهود، الذين ذكر أنهم، في العصر الإسلامي، يقطنون المكان المسمَّى (نهر السبت)، إنما قدِموا إليه من (الشام)، حيث قال: (ولمّا غزا بختنصر بني إسرائيل الشام سكن اليهود نهر السبت ممّا يلي ظهر الحجاز.)(1)
ومن هذا يتبيَّن أن صاحبنا يجمع في تعامله مع النصوص بين الاجتزاء، والانتقاء، ورفض ما لا يتماشى مع مُراده، ثم ادِّعاء غير الحقيقة. وهذا ما فعله بنصِّ ابن المجاور؛ فاجتزأ منه، منتقيًا ما شاء، ورفضَ قوله إن المكان في (الحجاز)، مُصِرًّا على أنه في (عسير)، ثم ادَّعى أنه يُستخلص من كلام ابن المجاور ما لا يُستخلص منه، بل هو خلاف ما قاله أصلًا!
والحقّ أن تتبّع تدليسات الصليبي من خلال الشواهد التي يستشهد بها مبحثٌ قائمٌ بذاته يطول. وسنكتفي، إلى ما سبق، بمثالٍ أخير. ذهب في كتابه (حروب داود)(2) إلى القول: (وأخبار سليمان في التقاليد العربيَّة كثيرة و[جميعها] يشير إلى أنه كان ملكًا على منطقة [قريبة جدًّا من اليمن]. ومن هذه الأخبار ما يضيفه ابن هشام على (كتاب التيجان) لوهب بن منبّه اليماني، حيث يقول (ص169): (لمّا مات سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم ولي أمره في الخلق ابنه وهو وصيّه وخليفته رِحُبُعَم، وهو ابن بلقيس، فولي اليمن) (كذا).) ونقف مع اقتباسه هذا وقفات:
1- قال (و[جميعها] يشير إلى أنه كان ملكًا على منطقة [قريبة جدًّا من اليمن].) ولم يأت بمثالٍ واحدٍ من تلك التقاليد (الكثيرة)، التي (جميعها يشير إلى أنه كان مَلِكًا على منطقة قريبة جدًّا من اليمن)، ولو بالإحالة على المظانّ دون النصوص.
2- ليس بلافتٍ أن يقال إن (سليمان) مَلَك (اليَمَن)، أو أن يتولَّى ابنه اليَمَن أو غير اليَمَن. كيف لا وقد جاءت قِصَّته بأنه قد مَلَك الإنس والجانّ، وجاء خبر علاقته باليَمَن وملكته (بِلقيس). ليس في هذا جديد. لكنَّ قولَ هذا شيءٌ والزعمَ أنه (كان ملكًا على منطقة [قريبة جدًّا من اليمن] )، شيءٌ آخَر؛ أراد به الصليبي دعم زعمه بأن تلك المملكة كانت في عسير، فلم يوفَّق.
3- الأمر الأهمّ هنا أن الصليبي يمارس هوايته في اجتزاء الشواهد ليُظهِر منها ما يريد ويُسقط منها ما لا يريد. ((كذا))، كما استعمل هذه العبارة في آخر اقتباسه أعلاه. إلَّا أن ما جاء في كتاب (التيجان) ليس كذا! دعونا نعود إلى مرجعه، لننظر ماذا قال (وهب بن مُنَبِّه (اليماني))، وأضافه (عبد الملك بن هشام بن أيوب الحِمْيَري المعافري)، بتمامه دون إساقاطات الصليبي وحذوفاته المتعمّدة. جاء في كتاب (التيجان)(3): (قال أبو محمَّد: لمَّا مات سليمان بن داود، صلى الله عليه وسلم، وَلِـيَ أمره في الخلق ابنه، وهو وصيُّه وخليفته رِحُبُعَم بن سليمان، وهو ابن بلقيس. فوَلِـيَ اليَمَن رِحُبُعَم بن سليمان سنة، فأتاه رسول بني إسرائيل من بيت المقدس، فقالوا له: إن أهل الشام ارتدُّوا بعد سليمان عن دِين الله؛ فاجتمعت إليه حِمْيَر، فقال له القلمّس أفعى نجران: يا خليفة رسول الله، أردتَ الشامَ، وأهلُه أهلُ بأسٍ وفتنة، لا يُعطُون إلَّا عن قَسْرٍ، فاجعل سيفك دليلًا وعزمك خليلًا، وإن للكُفر طربًا من القلوب، لا يحول بينها وبينه إلَّا الخوف، ولن تُخيفهم إلَّا بعزمٍ وصبرٍ، وإن الله المعين. قال رِحُبُعَم: لله جنود بيت المقدس ينصرون الله وينصرهم، خذوا أُهبة الحرب وأَعِدُّوا الجيوش حتى يأتيكم أمري؛ فإن السنة مَحْلَة والجدب عامّ. فتربَّص كلّ قومٍ من جيوش حِمْيَر عند أنفسهم، ومضى رِحُبُعَم إلى الشام، وخَلَّف أُمَّه بِلقيس بمأرب، حاكمةً على اليَمَن. وسار رِحُبُعَم إلى بيت المقدس، فاختار من بني إسرائيل مائة رجل، فسار بهم على مدائن الشام، فأجابوه إلى أمر الله، حتى بلغ إلى إنطاكية، فائتمروا به فقتلوه، وهم من الجبّارين من بقايا بني ماريع بن كنعان بن حام بن نوح، فقتلوه وقتلوا المؤمنين الذين كانوا معه، وتجبَّر بنو كنعان بإخوانهم من القبط بن كنعان والنوب بن كنعان، فلم يكن لبني إسرائيل بهم طاقة، وبلغ ذلك بِلقيس، وقد أدركها الهرم، فلم تستطع النهوض إلى الشام، ووقعت فتنة باليَمَن، فنبغ الثُّ وَّار كلٌّ يدَّعي المُلك وتغلَّب على مَن تحت يده...). فهذا، إذن، هو الخبر، وتلك هي التقاليد العربيَّة في هذا الموضوع، لا ما زَعَمَ الصليبي وتقوَّل.
فعلامَ يَستشهد، إذن، ما دام هذا صنيعه بالشواهد، من التحريف، واللَّيّ، والتقوُّل؟ ولكن ما الغريب؟ إذ لم يقتصر طموحه على تحريف شواهده من بعض المراجع، بل أراد في نهاية المطاف أن يحرِّف التوراة نفسها- لو استطاع- كي تغدو وَفق فرضيَّاته؛ فأعدَّ ترجمةً جديدةً من نوعها للأجزاء الملحميَّة من (سِفر صموئيل الثاني)، في كتابه (حروب داود)، حَرَّفَ الأسماء الواردة فيها بحسب مزاعمه، مغيِّرًا أسماء الأماكن في ذلك السِّفر ليضع مكانها أسماء الأماكن من جنوب غرب الجزيرة العربيَّة. ما يدلّ على هوسه الشديد بفرض وجهة نظره فرضًا على الناس!
لقد كان في اعتيازٍ إلى الإيهام بأن التراث العربي يدعم فرضيَّاته بصورة أو بأخرى، وإذ يُصدم بأن التراث العربي لا يفعل ذلك بل ينافيه، يلتفّ على النصوص محاوِلًا تزييفها على القارئ، الذي من المتوقَّع- لديه على الأقل- أنه لن يراجعها في أصولها، ليعرف كيف تعامل معها الصليبي. لكن تُرَى ماذا سيفعل حين يواجه الإشكال مع مؤرِّخٍ عربيٍّ يمانيٍّ قديم، ومن أصلٍ يهوديٍّ أيضًا، ثمَّ لا يجد لديه أيَّ لمحةٍ ممَّا يزعم: من أن مَواطِن (بني إسرائيل) كانت في جزيرة العرب، بل يجد لديه التأكيد على أن مَواطِنهم كانت في (بلاد الشام)؟! لا مناص له حينئذ من تشغيل منهاجه المعروف، الذي وقفنا عليه في ما سبق مع صاحبَي (الإكليل) و(تاريخ المستبصر)، فيحذف العبارات المشيرة إلى بلاد الشام من الاقتباسات التي تورَّط فيها. ذلك المؤرِّخ (الورطة) هو (وهب بن مُنَـبِّه) في كتابه المشهور (التيجان في ملوك حِمْيَر). ولقد أورد الصليبي في كتابه (حروب داود) اقتباسًا آخر عن (التيجان)، موهِمًا من خلاله بأن ابن مُنَـبِّه يشير إلى أن (بني إسرائيل) كانوا يعيشون في جزيرة العرب، في حين أننا إذ نعود إلى (التيجان)، ونتقصَّى حذوفات الصليبي من شاهده، ندرك أنه قد حذف الإشارات إلى (بيت المقدس) وإلى (بلاد الشام) التي وردت في كلام وهب بن مُنَـبِّه، الدالَّة على قوله إن مَواطِن بني إسرائيل كانت هناك، وإن الأحداث التي وردت في سياق ذلك الشاهد إنما كانت تَصِف غَزْوًا شَنَّه بنو إسرائيل من بلاد الشام على عرب (الحجاز) فـ(مكَّة)، باؤوا فيه بالهزيمة المنكرة، والعودة إلى الشام دون تابوتهم، الذي كانوا قد رَمَوا به مُوَلِّين الأدبار، فاستولى عليه (الجُرهميُّون) وألقوه في مزبلةٍ من مزابل مكَّة.
كيف حدث ذلك؟ [ذلك ما سنعرفه في الحلقة المقبلة].
** ** **
(1) (1996)، صِفَة بلاد اليَمَن ومكَّة وبعض الحجاز المسمّاة: تاريخ المستبصر، باعتناء: ممدوح حسن محمَّد (القاهرة: مكتبة الثقافة الدِّينيّة)، 217. كذا في الكتاب (بني إسرائيل الشام)! ولعلّ صوابه: (بني إسرائيل في الشام).
(2) (1991)، حروب داود، (عمّان: دار الشروق)، 139- 140.
(3) (حيدر آباد الدكن- الهند: دائرة المعارف العثمانيَّة، 1347هـ)، 169- 170.
(*) تصحيح: في الحلقة السابقة، الحاشية (1): إشارة إلى أن الملك سليمان عاش في القرن 6 ق.م، والصواب: 10ق.م.