Saturday 20/12/2014 Issue 456 السبت 28 ,صفر 1436 العدد
20/12/2014

أبحاث في الهوية (3)

على أن هذه الدولة الحديثة التي أسسها الصحابة تعتمد على معطيات ومواضعات تختلف عن معطيات ومواضعات ما ألفه الناس من قبل، فإذا كان العرب فيما قبل الإسلام ينقسمون إلى وبر ومدر، وهذه التقسيمات تقوم على التقسيم القبلي بالدرجة الأولى، فمكة لقريش، ويثرب لابني قيلة، فإن الخطط التي أنشئت في زمن عمر بن الخطاب (البصرة والكوفة) قد فرضت واقعا جديدا لأبناء هذه القبائل، فعلى الرغم من أنها قد خطت بحسب تقسم القبائل التي نزلتها فقسمت البصرة إلى خمس خطط (لأهل العالية، وتميم، والأزد، وربيعة، وعبد القيس)، وقسمت الكوفة إلى أكثر من ذلك، فقد كانت القبائل فيها تسكن متجاورة متضافرة فيما بينها، إلا أن هذا الواقع الجديد فرض حالة من التداخل بين القبائل جعلها تشترك في المصالح، وفي المسئوليات التي تواجهها، وجعلها تختلط معا لتؤسس بنية اجتماعية مدنية جديدة تنتمي إليها وتختلف عن البنية القبلية، يمتزج فيها مكون جديد غير مكون النسب وهي المصالح والمجاورة على أساس التكافؤ والتساوي وليس على مبدأ المجاورة فيما كان معروفا قبل الإسلام، وهي المدينة التي تسكن فيها القبائل.

هذه الحالة الجديدة يشير إليها الأحنف بن قيس في خطبته التي خطبها حين ثارت ثائرة قبائل البصرة متحاربة فيما بينها: الأزد وتحت رايتهم ربيعة من جهة وتميم من الجهة المقابلة، فقال: «يا معشر الأزد وربيعة، أنتم إخواننا في الدين وشركاؤنا في الصهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار، ويدنا على العدو والله لأزد البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام».

هنا يحتل المكان قيمة عالية من الحال/ الساكن فيه، فيرتبط به ويصبح جزءا منه وقيمة ثقافية، واجتماعية لم تكن موجودة لمن يقضي عمره متنقلا بين الأمكنة بحثا عن الماء والكلأ، يفقد رابطته بالمكان حين يمحل من الكلأ ويجف من الماء ليبحث عن مكان آخر حتى ولو كان مأهولا بأصحابه: (إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا)، بل يتحول هذا المكان إلى جزء مكين من الشخصية الساكنة فيه ومن تكوينه حتى إنه ينسب إليه، ويعرف به، فيصبح هوية جديدة له، وهذا ما وجدناه في سلاسل النسب التي يعرف بها بالشعراء أو العلماء فينسب إلى مدينته كما ينسب إلى قبيلته كما هو في نسب المتنبي مثلا فيقال: أحمد بن الحسين الجعفي الكندي الكوفي، ونسبته إلى كندة هنا إلى حي من أحياء الكوفة وليست إلى كندة القبيلة.

ولأن هذا المكان الجديد يختلف في تكوينه عن القبيلة ذات المكون الواحد، فهو يضم في داخلة العرب إلى العجم والموالي، كما أن تراتبية الناس فيه تختلف عن تراتبيتهم في القبيلة حيث الأكبر سنا، وإنما هناك العالم والجاهل، والغني والفقير، والصانع والتاجر، والمولى، والسيد. وهي علائق تفرض طبيعتها خاصة إذا وجدنا أن أكثر العلماء من العجم والموالي وهو ما يضعهم في مكان علي ينافسون فيه سادات العرب، مما يجعل هذه الذات المتكونة حديثا تدرك تخلف/تأخر المكون القبلي/العرقي مقارنة بالمكونات الأخرى التي تضمها الذات في هذه الأمصار، فتجعلها في موازاة معها عند الحديث عن التعريف بالنفس، ولا تمانع أن تجد نفسها في مساواة مع من لا ينتمي إلى العرب الأقحاح خاصة من الشعراء والعلماء.

وهذا ما دفع الجماعة الجديدة إلى البحث عما ينظم المكان الجديد، والعلاقات فيه، ويحفظ نظام الحياة، وهو ما يعني الإيمان بالمؤسسة الجامعة لهذه العناصر، والسعي لإقرار القواعد المعتبرة عند الفئات المختلفة، ويمكن النزعة الفردية لدى ساكنيه مما يجعل كل شخص يواجه الحياة بمفرده في التعامل مع مؤسسات الدولة الحديثة التي تتعامل معه بمعزل عن الأصول التي يعود إليها (دار القضاء، الشرطة، الحسبة، دار الخلافة، ديوان الكتابة، ديوان الحجابة، وديوان الجباية)، وقد يصبح انتماؤه القديم نوعًا من الرباط الثقيل الذي يمنعه من أن يعيش وجوه الحياة المختلفة التي يعيشها لداته من أبناء الموالي، أو أبناء الأمم التي دخلت في الإسلام وهاجرت إلى حواضره.

هذه الحالة التي مر بها الإنسان العربي في الخطط الجديدة هي ما يحدثنا عنه بعض المؤرخين في حديثه عن المراحل التي مرت بها الذات العربية في تحولها عبر القرون حيث كان الخلفاء يفوجون القبائل من الجزيرة العربية وينزلونهم في الأمصار المفتوحة دعما للحكم الإسلامي الجديد، وتعزيزا للوالي من قبل الخلافة، إلا أن هذه الأفواج من القبائل لم تلبث أن انصهرت بالسكان الأصليين، فنزلت القرى والنجوع، وعملت بالزراعة والتجارة خاصة بعد أن قطع بعض الخلفاء أبناء القبائل من الديوان ولم يعد لهم دخل سوى ما ينتج من أعمالهم، بل وإتباعا لما سبق قوله من إتباع نسب الرجل إلى موطنه مع القبيلة نجد أن المؤرخين يذكرون أنه قد سجل - منذ القرن الثاني- إسقاط نسبة العائلة لصالح الموطن في شواهد القبور في بعض المواضع ثم المهنة.

على أن هذا التخفف من الأعباء التي تفرضها الأصول المنحدرة عن القبائل لم يكن في المدن الحديثة، بل تجاوز ذلك إلى أبناء المدن الأصلية التي كانت قائمة في الأساس على التكوين القبلي كالمدينة، ومكة أم القرى حتى نجد من أبنائها أو سكانها من امتهن الغناء واللهو في وقت مبكر من عمر الدولة من مثل الهذلي في مكة وابن أبي السمح في المدينة. بل نجد من أبناء الخلفاء من تخفف من تلك القيود وعرف بالغناء واللهو والإمتاع من أمثال خيلان الأموي وإبراهيم بن المهدي أخي هارون الرشيد وعم المأمون.

وعلى الرغم مما يبدو من الجهود في الحفاظ على الشخصة العربية بتكوينها القبلي/العرقي من قبل بعض الخلفاء، فإنها تواجه بموقف صارم يستند على موقف الإسلام من التعصب، ودعوته للمساواة بين الناس، فقد روى أن معاوية بن أبي سفيان بلغه أن الحسين بن علي قد أعتق جاريته ثم نكحها، فكتب له رسالته يلومه فيها على أن نكح جاريته وترك أكفاءه من قريش، فرد عليه الحسين بأن «ليس فوق رسول الله منتهى شرف ولا غاية في نسب، وإنما كانت ملك يميني، خرجت عن يدي بأمر التمست فيه ثواب الله تعالى، ثم ارتجعتها على سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، ووضع بها النقيصة».

وهنا نجد الذات العربية الأولى التي تكونت من البعد القبلي قد تخففت من صلابة تكوينها، بدخول مكونات أخرى، وبفعل الدين أولا وبما طرأ من ظروف اجتماعية وعمرانية عليها حتى أصبحت ذاتا جديدة، تحلل ما فيها من بعد قبلي واندمجت في الجو المحيط بها المتنوع التكوين حتى صارت تحوي في تكوينها عددا من العناصر لا يمثل العرق أهمها.

- الرياض