الناشر : دار الفارابي ؛ 2014
من الكتاب :
«ندعي أننا نعرف. ندعي أن ما نكتبه حقيقي. نحمل القلم على محمل الجد. ننقضُّ على الحدث ونلقنه دروساً في التحليل والتفسير والتفكير. نظن أننا من أهل اليقين... ثم، في لحظة وعي نادرة، نكتشف أننا كنا شهوداً رديئين، ومعانين مدَّعين، وكتّاباً بأخطاء باهظة.
عصر عربي كامل ينقلب عقباً على عقب. عصر حظي بعبقرية غير مسبوقة في القتل، قتل الجسد وقتل الروح. عصر سقوط أصلي إلى القاع، بعد قرن من التساقط على السطح، كركام يرثه الركام.. أمة ودَّعت الحياة وانخرطت في صناعة جنازتها. أفكارها نحرت، قضاياها بترت، أرضها انتهكت وشعوبها لم تعد كافية لإرواء عطش المفترسين.
ما علاقتنا ككتّاب بهذا العصر؟ أنكتب فقط وندَّعي أننا نعرف، ونحن بالكاد نحظى بالعبث، نلوكه لغة ونطبعه نصاً ونتلوه كفارة للعجز، على ظن بأننا نقوم بواجبنا، وهو واجب يدعو للرثاء.
عندما استعرضت مقالاتي للعام 2013، اكتشفت الهوّة التي تفصل بين الكتابة عن الحقيقة وبين الحقيقة كما هي مجسّدة في الواقع. مسافات ضوئية بين الدم الذي يبتكر أحداثاً مهيبة ومهولة، وبين الحبر الذي يفتقر لنبض الحياة، في موت الكلام وعجز اللغة وانعدام الفهم.
التراجيديا العربية الراهنة، جديرة بأن تمثل وتؤدَّى، لا أن تكتب. الفرجة أكثر إيحاء من الوضوح اللغوي. الفرجة تدخل الحدث إلى الكيان كله فيرتج. القراءة اقتباس سيء لحدث مدهش ولا دهشة لها، مهما كانت الصياغة وأيّاً كانت الأفكار.
لا أعرف العقوبة التي استحقها. كنت أكتب عن هذه الأمة الفريسة بدمها. لم يكن لي حظ الرماية أو فضيلة إسعاف الضحية. حسبت نفسي ذكياً إذ أفشيت وجع الطريدة بالحبر. انتهكت الحدث ومثّلت به. انتقمت منه، وكأنني بريء من الارتكاب.
يندر أن كنت مبادراً في ما حدث أو مانعاً لأمر لم يحدث. جالساً خلف طاولتي، أقيس العالم بجمل ومفردات، أنصّب نفسي عارفاً ومتنبئاً ومدركاً ومستنتجاً، فيما أنا تمثال متحرك تحركني مفردات اللغة، مدّعياً، إنها ابنة الحدث ومن أصالة الواقع، فيما هي من قاموس جاهز، للانقضاض على الطريدة، بقلمي الذي لا استشعره بين أناملي ... وفيما كنت أصنع نصّاَ فقط، تراءى لي أني أصنع حدثاً أو أضيف إلى حدث ... فما حجم هذا الادِّعاء!
في الأصل، لم يكن لي مكان في هذه الخريطة، ولا أعرف مكاناً لأحد من شعوبها الحقيقية فيها. شعوبنا المقهورة كانت أسيرة هذه الجغرافيا، قبل أن تنفجر، وتندلع داخل حدودها وخارجها محمّلة بأثقال الاستبداد وفروض الانتقام، باللجوء إلى المقدس الديني، الذي تمّ تطويبه، بل تأليهه، في سراديب الاستبدادات العربية والهيمنة الغربية والاحتلال الإسرائيلي ... لم نكن شعوباً عاقلة، إلا للحظات، ولكننا كنا شعوباً غاضبة، لأ وقات لم تتوقف عن كتابة (بؤس التاريخ العربي الحديث).
في الأصل إذاً، لم يكن لي مكان في هذه الخريطة العربية المترامية في اضطهاداتها وعبادة أسلافها وكره حاضرها. آثرت التسلل إلى المشهد، متسلحاً بنبل المقصد وشرف المهنة. خدعت نفسي بالحجة والادعاء، بأن للكاتب مهمة وأن عليه واجباً يقتضي منه التزاماً. أقنعت نفسي بنبلي (يا لبؤس المنحة!) فاخترت زاوية للرماية بالكلام ... ومن هناك انخرطت في بكائية المأتم العربي الكبير وفي إشاعة غضب مجاني، يصيبني وحدي ولا يشعر به سواي.».