لا يمكن لأحد أن يتجاهل القفزات الواسعة التي حققتها المملكة العربية السعودية في مجال التعليم العالي، ولا يمكن له أن يغفل عن التطور الكمي والنوعي الذي نعيشه حالياً في التعليم الجامعي، حيث تزايدت أعداد الكليات والجامعات في مناطق ومحافظات كثيرة، حتى أضحى لكثير من جامعات المملكة مكانة متميزة على الخارطة الدولية.
ويسعى القائمون على كل جامعة من جامعاتنا المتناثرة على أرض وطننا الحبيب إلى بذل كل ما في وسعهم حتى تحتل مؤسستهم التعليمية منزلة مرموقة في منظومة مؤسسات التعليم الجامعي في المملكة، ولا شك أن هذه الجهود يفترض أن تبدأ من أصغر وحدة علمية في الجامعة، وهي الأقسام العلمية، ثم الكليات التي تنتظم هذه الأقسام، فإذا تمكنت القيادات من إصلاح هذه الوحدات التعليمية، واستطاعت أن تحقق فيها أعلى معايير الجودة والإتقان، فقد خطت خطوات واسعة نحو التميز والإبداع، وتهيأ لها مزيدٌ من الفرص لأن تحتل مكانة مرموقة في التصنيف الدولي للجامعات.
وأظن أن من أهم الخطوات لتحقيق ذلك تفعيل التواصل بين الأقسام العلمية التي تشترك في التخصص الواحد في جامعاتنا السعودية، ومحاولة سد الثغرات الموجودة بينها، وتوحيد التعاون فيما بينها للوصول إلى أعلى قمة في هرم الجودة والتميز، وهو ما سيسهم في تحقيق إضافات قيمة ونوعية تنعكس على الكليات التي تستظل تحتها هذه الأقسام، ويمتد ذلك إلى المؤسسة التعليمية التي ستفيد كثيراً من هذا التواصل، وسيعود عليها بمزيد من التقدم والازدهار.
إنَّ الناظر اليوم في واقع أقسامنا وكلياتنا في جامعات وطننا الحبيب يلحظ انقطاعاً عجيباً فيما بينها، وجفاءً لا أفهمه ولا أجد له أي مبرر، فلا قيادات الكلية والقسم في هذه الجامعة يعرفون شيئاً عن قيادات الكلية والقسم في تلك الجامعة، ولا أعضاء هيئة التدريس يعرفون زملاءهم، ولا أحد منهم يعرف ما هي المقررات التي يُدرِّسها الآخرون، مع أنهم جميعاً ينضمون إلى تخصص علمي واحد!
إنَّ كل عاقل يدرك أنَّ الاتفاق في الأهداف يوجب التنسيق والتعاون، وإذا كانت هذه الأقسام والكليات تهدف إلى إعداد كوادر مؤهلة لسد احتياجات مؤسسات الدولة المختلفة وكذا القطاع الخاص من المتخصصين، فإنَّ التنسيق والتعاون اللذين لن يتما إلا بتفعيل التواصل يُعد أمراً رئيساً وبالغ الأهمية، ولا يمكن الوصول إلى هذه الأهداف وتحقيقها بغير ذلك، حتى مع وجود الاجتهادات الفردية ومحاولة التميز المستقل.
إنَّ توحيد الجهود وتوسيع آفاق التعاون هو الذي سيثمر في تحقيق الأهداف، وهو مبتغى كل مؤسسة تعليمية، ولن يتم ذلك إلا بالتواصل بين أقسامها العلمية ذات التخصص الواحد والاهتمام المشترك، وبحث أوجه التعاون فيما بينها، وما يمكن أن تقدمه في سبيل تحقيق أهدافها العامة والخاصة، وما يمكن أن تفيد به المؤسسة التعليمية التي تستظل تحتها.
إن أهم ما يمكن أن يثمر عنه هذا التواصل العلمي بين أقسام التخصص الواحد في الجامعات السعودية هو تبادل الخبرات والأفكار والمقترحات والآراء حول كل ما يمكن أن يسهم في خدمة الأهداف المشتركة، ويأتي في مقدمتها العمل على تطوير المنهجيات والاحتياجات التي يتطلبها سوق العمل، سواء على المستوى المحلي أو على المستوى الدولي، كما يسهم هذا التواصل في تعديل ما يمكن تعديله في المقررات والمناهج التي تقدمها هذه الأقسام إلى المستفيدين، إضافة إلى ما يمكن أن يؤدي إليه هذا التواصل من اطلاع على التجارب الناجحة التي تميز بها الآخرون، سواء كان ذلك على المستوى التعليمي أو التدريبي أو على مستوى التعاون وتبادل الخبرات مع مؤسسات الوطن المعنية بصفة مباشرة بتخصص هذه الأقسام.
والحق أنَّ ثمار هذا التواصل لا تتوقف عند هذا، وما كشفت عنه السطور القليلة الماضية ما هو إلا غيض من فيض، وسيرى القائمون على الأقسام والكليات العلمية في المؤسسات التعليمية أكثر من ذلك بكثير في حال سعوا إلى تفعيل التواصل بينهم وبين الأقسام والكليات الأخرى في الجامعات المختلفة.. هذا شيء من ثمار هذا التواصل.. ولكن.. ماذا عن وسائله وآلياته؟.. وكيف يمكن أن يحدث؟.. وبأي طريقة يمكن أن يجري تفعيله؟.. وما هي الثمار المرجوة منه؟.. هذا هو ما سأحاول تفصيله في الجزء الثاني من هذه الحروف.