مكّنت الحركة العلمية التي قام بها سدنة اللغة وخدام الفصاحة من وضع قواعد لضبط اللغة وبدء التدوين، وخلفت كنزًا عظيمًا من التراث العلمي الذي انتشلته من غوائل الضياع والنسيان.
وكان من ذخائر هذا الكنز التراثي المكنون ما وصلنا من الشعر العربي، سواء ما كان في دواوين مستقلة، أو مختارات، أو مقطعات ضمن مناسباتها في كتب الأدب واللغة؛ إذ إن الرواية والتواتر لم تكن لتصل بنا لحفظ كل هذا الكمِّ الشعري الهائل.
وفي استخراج هذه الكنوز من خزائنها في غياهب المخطوطات، إلى نور المطبوعات ورفوف المكتبات، كان «تحقيق التراث» بمنهجه العلمي الرصين حلقةً لا غنى عنها في هذه السلسلة الصناعية المنتجة.
وفي إطار دراسة هذا المنهج العلمي كانت هذه الموازنة بين نشرتي ديوان النابغة الذبياني؛ لتقف على مدى التقيد بأدوات ومبادئ هذا الفن، والفوارق التي يتركها هذا التباين، وأثره في المنجز النهائي لهذا العمل أو ذاك.
نشرتا الديوان:
النشرة الأولى:
ديوان النابغة الذبياني، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف- القاهرة، الطبعة الثانية 1985م.
االنشرة الثانية:
ديوان النابغة الذبياني، تحقيق وشرح: علي فاعور، دار الفكر العربي – بيروت، الطبعة الأولى 1993م.
مكانة شعر النابغة وأهم تحقيقاته:
عُـرف شعر النابغة بميزات جعلته في الصفِّ الأول من فحول الشَّعراء، واعتبر شعره مُقدَّما في المديح والاعتذار، حيث وازن بين الألفاظ والمعاني في قوة وجزالة، وسهولة وعذوبة، حتى قال عنه الأصمعي: إن قلت ألين من الحرير صدقت وإن قلت أشدّ من الحديد صدقت. وإلى جانب هذه القيمة اللغوية والفنية اشتهرت القيم الأخلاقية والصِّفات الحميدة التي امتاز بها شعر النابغة، فاكتسى أهمية خاصة فاق بها معاصريه، ووضع له بها القبول لدى ذوي الأحلام والنهى.
سُـئل حمادالراوية: بأي شيء فُضل النابغة؟ فقال: إن النابغة إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت به مثل قوله:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً
وَلَيْسَ وَرَاءَ اللهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ
اعتنى الرواة بشعر النابغة، ومن بعدهم النُّقاد، ترجم له صاحب الأغاني وأورد نتفًامن أخباره وأشعاره( )، ولعل أول تجميع لشعره ما رواه الأعلم الشنتمري ضمن ديوان الشعراء الستة: (امرئ القيس، النابغة، زهير، طرفة، علقة، عنترة)، الذي تمت طباعته بتحقيق المستشرق: أهلوارد سنة 1869 م. وكان قد ظهر كثير من شعره وأخباره ضمن كتاب شعراء النصرانية المطبوع سنة 1790م، وفي سنة 1868طبع المستشرق ديرنبرغ ديوان النابغة منفردًا، ثم طبع سنة 1876 م ضمن ديوان الشعراء الخمسة: (النابغة، عروة بن الورد، علقمة، حاتم الطائي، الفرزدق)؛ليطبع مستقلا استخراجا من هذه النسخة سنة 1911م، ثم في سنة 1968 م طُبعت رواية ابن السكيت، بعد العثور على مخطوطها، بتحقيق الأستاذ شكري فيصل.
هذه أهم المعالم في طباعة وتحقيق شعر النَّابغة، وغيرها كثير، ولكنه تبعٌ لهذه، ولا تضيف الأخريات إلا مزيدَ تنقيح، أو إعادةَ ترتيب، وفي أحيان أخرى ليست إلا إعادة طباعة بأسماء مختلفة، وسنرى أين يقع هذان التَّحقيقين في موازنة بينهما بالنظر إلى مراجع نقد التُّراث، وما وقفت عليه من التَّحقيقات السَّالفة لشعر النَّابغة.
أولا: صفحة الغلاف
صفحة الغلاف هي واجهة الكتاب، وأول ما يتلقاه النَّاظر منه،وفي السَّابق لم يكن مؤلف الكتاب أو محققه يبذل جهدًا كبيرًا في اختيارها، ويكلها إلى قوالب جاهزة عند النَّاشر، بالنَّظر إلى أنها أمر شكلي، لا يدخل في صميم العمل التَّحقيقي؛ لذلك لا نجد لها ذكرًا ولا اهتمامًا عند فرسان هذا العمل الذين سطروا جهودهم وتجاربهم في أصوله ومناهجه.
ومع ذلك كان للناشر حرصه الخاص على أن يكون الغلاف لوحة فنية مزخرفة، تتناغم مع عنوان الكتاب بقدر الإمكانات المتوفرة، ومع التطور الذي شهدته علوم الحاسب الآلي وتطبيقاته الفنية في الطباعة والإخراج أضحى تصميم الغلاف أمرًا يحظى بأهمية خاصة ؛ لما له من دور تسويقي وجذب للقارئ.
لم يحتج «محمد أبو الفضل إبراهيم» أن يختار لكتابه المحقق صفحةَ غلافٍ، فهو يخرج ضمن سلسلة ذخائر العرب التي تصدرها دار المعارف بمصر، وهي بتصميم متقارب، اختيرت له خلفية زرقاء فاتحة بدوائر وزخارف عربية.
في أعلى الصفحة جهة اليمين: كتبت: ذخائر وتحتها الرقم: (52)، وهو يشير إلى رقم الكتاب في السلسلة، وفي الوسط كتب العنوان بخط كوفي كبير «ديوان النابغة الذبياني» وتحته بخط أصغر تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم» وفي الأسفل: اسم الدار وشعارها بخط صغير.
واختار علي فاعور لكتابه الذي كان إصدارًا مستقلاً –على ما يبدو- صفحة غلاف زرقاء غامقة تحوي مستطيلين في الأول وبخط كبير اسم الكتاب في أعلى الصفحة، وفي المربع الثاني وبخط صغير كتب اسم المحقق، وفي الأسفل اسم الدار.
في نظري لا يعطيك غلاف أي من الكتب فيما لو شاهدته من بعيد فكرة عما بداخله، ولا يضعك في صورة أنك أمام ديوان شعري، إذا استثنينا العنوان الذي تكفل وحده بالمهمة.
ثانيا: المقدمة
لم يٌقدم علي فاعور للديوان، وإنما صدَّره بترجمة للشَّاعر اعتمد فيها على مصادر أربعة، اكتفى بذكر أسمائها دون تحديد صفحة أو جزء، إلا من أحدها: «كتاب الأغاني»، وعنونها باسم الشاعر «النَّابغة الذبياني»،وفي نهاية الترجمة يخلص المحقق إلى توطئة موجزة جدا للديوان لا تتجاوز أسطرا ثلاثة، لا ذكر فيه لشيء مما يتوقع أن نجده عند من كابد وعالج المخطوطات، وقابل بين نسخها ورجع لكتب التراث، دون أن ننفي أن شيئًا من ذلك قد حدث،ولكنه لا ذكر له ولا أثر في «المقدمـة» التي انتهت بتوقيع: (ع، ف)، وهي الأحرف الأولى لاسم المحقق، دون ذكر زمان ولا مكان!
وعند محمد أبو الفضل إبراهيم نجد أنه عنون لمقدمته بـ»تصدير» والتي قسمها لثلاثة أقسام مبتدأً بترجمة الشاعر ونبذة عن حياته، لم يبين فيها المصادر التي رجع إليها، ثم ألمح بصورة مختصرة مركَّزة إلى تاريخ جمع الدِّيوان بمعلومات استقصائية قيمة، وأخيرًا:توضيحٌ مقتضب للمنهجية التي اتبعها في عمله،ونوعية المخطوطات والكتب التي اعتمدها للقيام بهذه المهمة، وجاء التوقيع باسمه الكامل دون تحديد تاريخ ولا مكان.
ثالثا: منهجية البحث وجمع الديوان:
لم يوضح فاعور منهجيته التي اعتمدها في جمع الديوان، على الصورة التي قدمه بها، ولكن تصفحًا استقرائيًا لبعض القصائد يفيد أنه اعتمد على أحد الدواوين سابقة النشر، والتي استعرضها إبراهيم في مقدمته، مع استدراكه لما ذكر في باقي كتب الأدب والمختارات الشعرية،فعلى سبيل المثال لا الحصر: في تتبع لقصيدة «كِلِيني لِهَمٍّ» ومقارنتها برواية الديوان المطبوع سنة (1911م)( ) نجدأن فاعور زاد بيتين بعد البيت الرابع لم يذكرا في هذا الدِّيوان:
طَلاقَةُ قَوْمٍ فِي عَطَايَا كَثِيرَةٍ
وَأْفْعَالُ صِدْقٍ شُكْرُهًا غُيْرُ وَاجِبِ
تُجَزُّ لَهُمْ فِيهَا النَّوَاصِي تَكَرُّماً
وَيَتْبَعُهَا فَضْلاً أُصُولُ الذَّوَائِبِ
وعلق في الهامش: «ورد هذان البيتان في كتاب فحول الشعراء( )، المكتبة الأهلية، بيروت 1934»، ولم يذكر إبراهيم فاعور البيتين ولم يعلق بشأنهما في الهامش، ما يعني أنهما لم يردا في أي من المخطوطات أو المصادر التي اعتمدها، وهذا يؤكد أن فاعور اعتمد على هذا الدِّيوان أو أحد توابعه، ولذا سوغلإقحام البيتين في هامشه( ).
ونجده أيضا – أي فاعور- يرجع لنفس المصدر السابق (فحول الشعراء صـ66)؛ ليضيف إلى البيت الوحيد في حرف السين: الذي أورده الديوان سالف الذكر –المطبوع بدار الهلال:
ظَلَلْنَا بِبَرْقَاءِ اللُّهَيم تَلُفُّنَا
قَبُولٌ نَكَادُ منْ ظَلالَتِهَا نُمْسِي
بيتين آخرين، هما:
غير أننا في هذه المرة نجد الأبيات الثلاثة عند إبراهيم في رواية ابن السكيت( ).
إِذَا مَا تَدَاعَتْ ِمن كِنَانَةَ عُصْبَةٌ
عَلَيْهَا سَرَابِيلُ الحْدِيدِ أُولُو بَأْسِ
هُمُ قَتَلُوا مَن قُتِّلُوا مِن سَرَاتِنَا
وَهُمْ حَبسُوا الأَمْلاكَ بِالمْحْبَسِ الشَّأْسِ