Saturday 20/09/2014 Issue 446 السبت 25 ,ذو القعدة 1435 العدد

سعد البواردي

استراحة داخل صومعة الفكر

20/09/2014

« تفقَّد غيابك»

هيفاء الحمدان

110 صفحات

من القطع المتوسط

شاعرتنا تقرأ الزمن.. تقرأ قيمته وأهميته في حياتنا.. التاريخ جزء منه.. النهوض جزء منه. الانتصار جزء منه والانكسار جزء منه بقدر ما نعطيه يعطي لنا شهادة ميلاد، وبقدر ما نسترخصه يكتب لنا شهادة وفاة حتى ولو كنا نتحرك.. ولقد أوصتنا شاعرتنا بتفقد الغياب لخطورته حين لا نستشعره.. فإن اهتماماً آخر أن نتفقّد الحضور بمعطياته.. أن نستثمره فسحة من حياتنا كي لا تضيع.. أو ناقصة لا تشبع الطموح..

أعود إلى هيفاء.. إلى ديوانها ماذا دونت فيه؟ رصدت للزمن في وجهيه الإيجابي والسلبي الحضوري والغيابي وأحسب أنها باستشعارها لقيمة الوقت ادلت دلوها في بئر الحياة كي تغترف لنا ماءً فكرياً نبل به عطشنا.. ويمنحنا حركة نسبق بها حلمنا.. وأن لا نتوقف.

للوهلة الأولى تقدم لنا ابتسامة وطن.. إنه الفأل الذي ننشده ونُرجع نشيده لأنه حضور لا يتقبل الغياب..

عهدتك وجها صبوح المحيا

تزف التحايا إلى ناظريا

تًسِرُّ لنجد بشوق الحجاز

فينتفض العشق غضاً طرياً

وتهتف للجوف حيَّ القصيم

وغنَّى عسير الأصيل الوفيا

وبث هواك إلى الوادعات

جُبيلاً وظهران حيَّا فحيَّا

تطواف وأحلام لطاف رسمتها شاعرتنا وَلَهاً وهي تطبع خطواتها عبر جغرافية هذا الوطن الغالي مبتسمة كالحياة.. حانية كالحب.. هاتفة كالحداء الجميل أمام قافلة تتحرك، تزرع الصحراء والفيافي، والنجود دون خشية.. ودون إجهاد.. لأن صوت جهدها وجهادها ترجعه فضاءات حبها وانتمائها.. ماذا بعد؟

على شاطئيك رأيت المعالي

تحث خطاها لفجر تهيا

وفي لهفة تستفز ثراك

تقول: وليدي إليَّ إليَّ

أليست الأم وقد فردت جناحيها.. وأفردت من حضنها الرؤوم متسعاً لكل أبنائها دون تمييز.. ولأنها الوفية الحفية بوطنها خاطبته:

سأزرع في جانبيك الأمان

وأدرأ عنك حقوداً شقيا

أيا مهبط الوحي، دمت سلاماً

شموخا وعزاً ودمت الأبيا

وهجتك روحي، وكل انتمائي

وهل كنت أنت سوى مقلتيا

رائعة أنت يا هيفاء.. ومن ابتسامتها نصل إلى قطاف الشوق:

هل للقصائد تأتيني لأسقيها

صِرفا من الوجد يشجيني فأشجيها

هل للقصائد من نجوى نُسرّ بها

إن أقبل العيد أو غنت لياليها؟

تساؤلات.. لم تهنأ لها طويلاً عاجلتها غصة الفراق.. وما أدراك ما الفراق..

ما إن هنئت بعيش استلذ به

إلا ونغصه بالبين حاديها

وراحت تقلب الفكر في محراب أسئلتها.. تسائل ذاتها عن سر ذلك الأسى.. الصور تداخلت في رأسها.. هي قريبة منها إلا أنها متمردة عليها، كاد فكرها أن ينغلق لولا بعض المشاعر التي أملت عليها حكاية ما لا يحكى.. إنها تكشف سر النجوى..

فعدِّ عن ذا.. وخاطب نبض أوردتي

قد أينع الحب واهتزت رواسيها

واستعبرت ديم الأحلام وانتفضت

وامطرت وردت من كان يزجيها

وحان وقت قطاف الشوق في لغتي

وأنت رهن عهود كنت توفيها

إنها عاتبة.. ويبقى الحب ما بقي العتب:

فسل فؤادك هل ظل أبيت به

أم قد عدتك من الحسنى عواديها

قضيت ليلي على همّ أكابده

وانت في دعة الأحلام تسجيها

قد ينبت الشوق في أهداب غانية

فالعين مدمعة والدمع ساقيها

هكذا الحب فيه منتقدون وفيه منكسرون فيه أوفياء وأشقياء.. لا عليك إنه الخاسر..

يبدو أن إجهاد العيون بالدموع بدأ.. الدموع أحياناً تغسل المآقي.. وتخفف من وقع الصدمة..

فتشت في وجه الصباح فلم أجد

في الصبح ما أهديه لك

غير انكساراتي.. وبعض مواجعي

وفتات روح أهكلتها أدمعك

كم هم قساة لا يرحمون لأنهم الجنس الخشن! وما زال للصباح بقايا نواح نيابة عنها:

هذا الصباح نواح ورق لا ترى إلا السواد

مفجعات، ذاهلات، نومها يدمي الفؤاد

فالتمس يا صاحبي أن لا تفق

رجمة به. وبها أن لا تمتد ساحة الأحزان.. أن لا يبتئس

إن تسكب العبرات فوق طلولها قد تبتئس

هي لم تدرك ضياء ثغر باسم

حلو شهي المفترق

أو تسفك الخطرات بين ربوعها

يا سيدي.. لا لا تقف!

واحدو الركائب لا.. (قفا بنك).

ولا أخواتها تجدي معك..

أنه غرام اللاعودة.. كل الأسباب لا تسر.. وجميع المحاولات محكوم عليها بالفشل.. ما أحلى النسيان عندما يتمرد ويتجرد من حبه الإنسان.

شاعرتنا هيفاء الحمدان رقيقة المشاعر، رهفة الحس عانت فصبرت.. وانتفضت فأصدرت قرارها الحازم الحاسم أن لا شيء يقدر على مصادرة حقها في الحياة.. بل إن أمانيها لحظة تفكير عقلاني تبدو متواضعة:

كل ما أرجوه نهر وشراع ونسيمات رخاء

يتهادى الفكر في مركبها يتهادى ما استطاع

كم تمنى.. وتمنى ليت شعري والمنى محض التياع

ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لا تشتهي السفُن.. وفي رواية السفِّن.. لا فرق.. إنها تواجه محطة انكسار:

يا فيض شعوري قف.. لا طاقة لي

قلبي المسكين لا يملك قوت الحب.

يا عاذلتي رفقاً.. رفقاً..

قلبي لا يقوى أن يبدأ حبها أو أن ينهي حبها

معركة خاسرة لجأت إليها شاعرتنا المتألقة بعد أن فاض الكيل وطفحت ملامح الكيد حتى من تلك العاذلة!

معزوفة وداع وقعتها على أوتار قيثار حزين رجعَّت ورجعته على مضض:

ودع على ذكر الحبيب حبيبا

واعزف على وتر الضلوع نحيبا

وقف الظعائن يستزدن من الجوى

لما استحال حداؤهن نحيبا

وذر الدموع على الخدود سواجا

ما طاب جرح لم ينل تطبيبا

وقد كان ملتجئي إذا فيض المدى

والتفَّ في سر الظلام كئيبا

واليوم.. يا لله كم عبثت به

أيدي الكآبة صيرته غريباً

ولا شيء يبقى على حاله.. إنها الأيام تداول ومتغيرات.. الحب في حياتنا تحول إلى حرب.. والسلام إلى سلاح.. والسنابل إلى قنابل..

ألست القائلة:

ما إن اروم إلى الجنوب توجهاً

إلا وتصرفني الشمال هبوبا

تلك الضغائن ما لقين من الهوى

حتى وجدت لذكرهن وجيبا

دعي الخلق للخالق دنيا ليس عليها مرتاح.. كلهم (مرتاعين.. لا مرتاحين) يا هيفاء.

تتحدث بلغة اللوعة عن الشهامة.. وما أدراك ما الشهامة:

لا شيء يبكيني سوى ذكراك

يا عابثاً بفؤاد من يهواك

أرخيت للظن الجهول مسامعا

ونصبت من قول النجي شراكا

ورحلت كيما تستفز قصائدي

بالله قل لي ما الذي أغواك؟

ما عدت استجدي الغياب لقاءكم

وهواك روح، والذي سواك

هاك انكساري بعض أوراقي التي

مُطِرت بوحي كنت فيه ملاكا

يا بلسم الآهات يا رجع الصدى

جرح يردد في الضمير كفاكا

فمشاعري مرآة مشتتة الرؤى

تشكو الحياة ولا حياة سواك

قصيدة عصماء يا هيفاء بها وبمثيلاتها تقفين في الصف الأول من شعرائنا وشاعراتنا.. أنت رائعة بطرحك في شكايتك وفي فرحك.. ومن لوعة المشتاق إلى بائع الورد.. ولعله الرمز لبائع الحب.. الورد ورد موصل إلى حاسة الشم يمطر به الوجدان:

من مشعل الوجد أم من جمر أشواقي؟

من لوعة الفقد؟ أم من سهد أحداقي؟

ماذا الشتات يطير القلب من فزع

والذكريات سطور نقشها باقي؟

يا مهلك النفس نأياً عن احبته

ألا شراب يرد الروح يا ساقي

بهذه الديباجة المخملية، وعلى بقية من بقايا الورد المسافر تخاطب البائع، بل تخطب وده ألا يطيل السفر. أن يثوب ويعود إليها لأن قلبها سافر معه، إنها بدونه دون قلب.. وتختتم مقطوعتها المعبرة بهذا البيت الرائع:

جد لي بيت أريج الورد مطلعه

يا بائع الورد أن الورد ترياقي

إن لم يعد إليك بعد هذا الحدو والشدو والشجو مجتمعين فإنه لا قلب له.

يبدو أن شيئاً ما جديد لاح في الأفق غمامة، ورعد وبرق ومطر لعله بيرد يسقي عطش الظامئين المتعطشين إلى عودة الغائبين

ها أنت عدت أيها المطر

فكيف قل لي كان ذا الغياب؟

وكيف كنت أنت والسحاب؟

في غرفة القطيعة

أهاجك الشوق فجئت تعتذر؟

وهزك الوجد فرحت تنهمر؟

أي الوجوه حركت بدفتها لواعج العتاب؟

أي العيون؟ أيها دعتك للإجابة؟

إن المطر.. وحيث يجود المطر يأتي الربيع ويأتي معه بائع الورد، والياسمين، وكل باعة الزهور والعطور، إن غيابهم قحط.

(خازن الإعلام) المحطة ما قبل الأخير إنها تتساءل:

ماذا لو انكسر الجناح وجئت أشكو بين كفيك انكساري؟

وأرقت سجلا من دموع، أتراك محتمل المزيد؟

هل تستطيب مدارة الدمع المضمح بالصفار؟

يا خازن الأحلام هبني قد جنيت وما جنيت

كدرت صفوك، ما نويت؟

اتصيرني حلماً بعمق توجدي لا حد فيه يعوق امنيتي

لا أخاله إلا فاعل.. وأخيراً مع تفاؤل.. والتفاؤل مفتاح الفرج.. إنه مسك الختام لديوان شاعرتنا المنجلية (هيفاء الحمدان).

تقول هيفاء:

حين تمر السحابة قربي

أعلق في صدرها أمنية

أقول وكلي ابتهاج الحقول

قريباً تكون الأماني ليه

رحلة جميلة.. ولا ككل الرحلات..

- الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 ـ فاكس 2053338