Saturday 20/09/2014 Issue 446 السبت 25 ,ذو القعدة 1435 العدد
20/09/2014

بين التربيع والتدوير

قال لي أحد الأصدقاء الغربيين ذات مرة: كيف لم تغيّروا من طريقتكم في التفكير منذ مائة سنة (هي تاريخ اتصالكم بالعالم الحديث وحضارته المعاصرة)؟.. قلت له: ماذا تقصد بعدم تغييرنا طريقتنا في التفكير؟.. ومن «نحن» المقصودون بالسؤال؟ قال: أنتم العرب، وعلى وجه الخصوص في المشرق العربي.. والمقصود أنكم لم تتعلموا من تجارب الأمم الأخرى، التي سبقتكم بالاتصال بجوانب هذه الحضارة المختلفة، ولم تتأملوا في طرق تعاملكم مع الحياة وعناصرها، ولا حتى مع أنفسكم؛ لتنظروا فيما يحتاج منها إلى تطوير أو تحديث، وبخاصة في صناعتكم الهياكل الكبرى، التي تنطلق منها نظرتكم إلى بلدانكم وإلى الآخرين، وكذلك تُبنى عليها أهدافكم البعيدة وإستراتيجياتكم العامة.

سأختصر ما أريد قوله، وأبسّط فكرتي في كونكم مختلفين عن كل العالم الحديث، الذي تتفاوت أقاليمه، ولكن بدرجات لا تصل إلى الجوهر في البنى الأساسية.. ثم أضاف: سأكون صريحاً معك؛ أنتم مختلفون عن بقية العالم باعتمادكم التربيع بدلاً من التدوير في خططكم وإستراتيجياتكم.. فنموذجكم هذا لا يجعل الأشياء تسير بسلاسة، لأن كل الآلات الحديثة التي ابتكرها البشر، وتضع الأمم خططها وأهدافها وفقاً لنماذجها المتصورة ذات حركات دائرية.. كما أن كل التروس تسير تبعاً لتقابلات دائرية؛ تنتقل من خلالها الحركة من منطقة إلى أخرى بسهولة.. أما المربعات، فلا يمكن أن تتحرك وفقاً لها أي من الآلات الحديثة؛ فانحناءات الزوايا عوائق رئيسة تمنع الحركة المستمرة.. ألم تفكروا في تغيير نماذجكم، بعد أن رأيتم بعض الأمم، التي كانت خلفكم في آسيا وأمريكا الجنوبية وبعض بلدان القارة الأفريقية تتقدم إلى معترك التنافس الحضاري معتمدة على النموذج السائد؟

قلت: بلى فكّرنا.. وتدبرنا.. وقلنا وكتبنا؛ لكن القضية ليست في التفكير والتدبر والقول والكتابة، بل في كوننا لا نقرر إلا بعد فوات الأوان، وفي أن الجماهير العربية لا ترعوي إلا لأصحاب الأصوات الطنانة، وليس لذوي العقول المتدبرة، الذين يضعون أصابعهم بكل جرأة وصراحة على جروحنا الدامية.. توقفت عن وصف الألم، وأردفت: هل عدت أنا هنا أيضاً إلى نموذج التربيع؟ أظن ذلك، فنحن لا نتوقف عن النظر إلى الوراء؛ لذلك تسعدنا هذه النماذج المربعة، التي نضع في كل زاوية من أركانها ما يذكّرنا بالماضي، ويجعلنا نتأمله في رومانسية شديدة الغرابة. والأسوأ من ذلك، أنه بسبب تركنا هذه الأركان مظلمة وغير معرضة للهواء، فإنها تتعفن، وتصبح مؤذية حتى للخطوط المستقيمة من أضلاع المربع.

ومن المفارقات أنني تذكرت عنواناً لإحدى رسائل الجاحظ بعنوان: «التربيع والتدوير»؛ وعندما عدت إليها، وجدت أن الجاحظ قد كان يسخر من خصمه أحمد بن عبد الوهاب، بكونه مربعاً.. كما كان ينظر إلى اعتقاد ذلك الشخص بأنه طويل ومدور، بينما هو مربع؛ قد أخذ عرضه من طوله، فأصبح يظن فيه التدوير، بينما هو مربع القاعدة.. ويختفي في ذلك المربع قصر عظم الفخذ مع طول الظهر.. هو كان يقصد من ذلك التصوير الكاريكاتوري إظهار عدم تناسق جسم الشخص الموصوف، خلافاً لما يظن عن نفسه بأنه رشيق ومستدير القدمين مثل لسان الثعبان (أي رشاقة صينية هذه كان يعرفها الجاحظ!).

فما وجه الشبه بين الحالتين المذكورتين أعلاه؛ إحداهما تخص مجتمعات، والأخرى تخص أفراداً وأجساماً بشرية؟ في الواقع أن الاستدارة في الحالتين كانت مطلوبة، والتربيع كان يمثل النموذج المستقبح.. وأظننا نستطيع مد هذه الأنماط إلى مجالات أخرى؛ فقد أصبحت الإنسيابية رمز الصناعات الحديثة الفاخرة، سواء في صناعة السيارات والطائرات، أو حتى في أجسام عارضات الأزياء، اللائي أصبحن من خفة الأرداف تنصهر!

- الرياض