قل ما شئت عن مضامين روايات محمد حسن عَلوان أو تشابهها في العمود الفقري لشخصية الراوي الضحية في عالم الحب، أو كيف أنه ربما ناب عن بعض الشخوص فأنطقها بمنطق فوق منطقها وأجرى على لسانها فلسفة لا تعرفها أو قد يشك القارئ في معرفتها إياها، أو أنه يفضح من المستور ما يجمل به الستر، قل ذلك كله إن أردت؛ ولكنك ربما ترى معي ما لهذا الكاتب الفذ من قدرة عجيبة على استغلال الإمكانات البلاغية للعربية، لا يردد قوالب محفوظة أو عبارات موروثة بل يخلق لك عالمًا عجيبًا يحسن نسج خيوطه ويبدع في رسم صور عوالمه بما أراه مادة خصبة لمن أراد أمثلة لألوان المجاز والبيان، ولعلي أضرب أمثلة غير متخيرة صادفتها في رواية (طوق الطهارة)، قال الراوي عن والده (ص 18) «في وجهه محراب لا يمكن أن تخطئه عيناي. دائمًا ألمح طائفة من الأحزان تصلي فيه، ولا أستطيع تمييز أي منها». إنه تصوير بديع لأحزان هذا الأب الذي تعتاده الأحزان اعتياد المصلي محرابه، وقال عن صوته (ص18) «راح صوته يبعثر غيوم النوم، ويعيدني إلى يباس اليقظة»، فالنوم غيوم مرتبطة بالغيث وهي حجاب عن واقع قاس تعانيه الشخصية يقابل بيباس اليقظة بعدد تبدد الغيوم، إن البديع أنه جعل للنوم غيومًا ولليقظة اليباس، وهي تراكيب جديدة مبدعة. ويتحدث عن الكتاب الذي ضم حكايته مع من أحبها وخذلته وتولت نشره وبعثت إليه بنسخة منه، يقول (ص21) «والكتاب الذي صافح دهشتي الكبيرة، بكل صلف وبرودة» وهنا مثال للاستعارة المعجبة، لم يقل الكتاب الذي أدهشني بل صافح دهشتي، فهو بهذا يجعل الكتاب حيًّا تمتد يده للمصافحة واستحالت الدهشة إلى ما يمكن أن يشارك بالمصافحة. ثم هو يصور عنوان الكتاب (ص21) تصويرًا عجيبًا حين قال «تأملت الكلمتين اللتين تربعتا فوق الغلاف»، وتراه يعطي الارتباك وهو شعور سلطة إنسان متحكم، قال (ص24): «رحت أقرأ مواقع عشوائية منه كلما منحني الارتباك فرصة لذلك»، وانظر كيف يعبر عن الاستسلام بقوله (ص56) «دحرجت رأسي على وسادتي ونمت، لعلي أطفئ عقلي قليلًا حتى لا تجد فيه الحيرة مساحة متاحة للانتشار»، فهذه جملة من الاستعارات المستفادة من حياتنا المعاصرة، فدحرجة الرأس ككرة البولينج والعقل كمصباح كهربي متوهج والعقل أيضًا أرض يمكن أن تنتشر فيه جيوش الحيرة. وتأمل معي كيف جعل النقاش والحوار عربة يركبها المتناقشون وهو يذكرنا بمثل (وافق شن طبقة) حين قال أحد المتحاورين لصاحبه «أتحملني أم أحمل»، والنقاش استحال إلى مخيط والليل إلى ثوب يتمزق، قال في (ص56): «لم أكن إلا راكبًا في عربة نقاش عابر مع الأخوين، نخيط به ما تمزّق من ثوب الليل». ومن غرائب التشبيهات قوله (ص61): «رغم أني طيب مثل دراجة هوائية يملكها طفل قروي»، لم يقل مثل طفل قروي لأن ذلك مألوف وأما غير المألوف فهو اكتساب أشياء الطفل القروي الطيبة منه، وهي دراجة هوائية لا زمجرة ولا ضجيج فيها كالدراجة النارية. ومن التشبيهات التي استوقفتني ما أكاد أراه رأي العين، قال (ص123): «ويحل مكانها حاجبان مرفوعان كمظلتين صغيرتين». وأعجب صورة مكثفة لأول لقاء بحبيبته وهي تدخل إلى سيارته في قوله (ص134): «شعرت برعشة وأنا ألمح تنورتها أول ما لمحت منها، وهي تدلف إلى سيارتي مثل شرفة مزدحمة بالنوارس الصغيرة، وأنا أشعر أن أصدافًا كثيرة تنحشر في حلقي، وتمنعني من الكلام. رددت تحيتها الأولى بصوت مهزوم جدًا، ثم تركت المطر وحده يحرك سيارتي مثل قارب، بينما عقلي، الذي تاه فجأة، يحسد الزجاج الذي تجلو عنه الماسحات قطرات المطر، بينما تراكم فيه هو ضباب كثيف، وغيوم». تعبير عن البياض بالنوارس المزدحمة والنوارس من بشائر التائهين في لجج البحار، ثم كيف عبر عن عجزه عن الكلام في تلك اللحظة بانحشار أصداف في حلقه، وهو ما ينسجم مع صوت يوصف بالمهزوم وليس كالمهزوم في انكساره وخفوت صوته، ثم تعبير عن عقله الذي تاه بتسخير ظواهر الطبيعة للتعبير عن ذلك.
أحس اللغة العربية تتجدد بطاقات خلابة يثبت بها مبدعوها صلاحيتها للإبداع وأنها ليست تكرارًا لقديم أو اجترارًا لفائت وإن كانت الوشائج موصولة واللحمة موثقة والصلات قائمة. ومهما قلت في شأن هذا الكاتب المبدع فقولي دون ما أريد لقصور أدواتي عن التعبير عن ذلك، وكل ما أملك قوله «علوان عُلوان بيان».
** ** **
(1) جاء في تهذيب اللغة للأزهري «ويقال: عُلْوان الكتاب لعُنوانه. والعرب تبدل اللام من النون في حروف كثيرة».