لا شك أن المعاناة الحقيقية للعقل تتمثَّل في تساؤلاته الفكرية العميقة واستفساراته الثقافية الملحَّة، وهذه التساؤلات العميقة وتلكم الاستفسارات هي عادة ما تدفع بصاحبها إلى أن يمر بتحولات فكرية صعبة، أو بتبدُّل ثقافي عنيف.
وإذا كان بعض الناس يرون أن في التحول دليلاً على الضعف والتردد فإن كبار المفكرين يرون خلاف ذلك، فالفلاسفة يقولون إن الإنسان عليه أن ينقاد خلف الحقيقة حيث كانت، وعليه ألَّا يكلّ عن البحث والنظر في الأدلة وألَّا يمل من التأمل والمراجعة، ولقد قال سقراط قديماً: «عليّ أن أتبع الدليل إلى حيث يقودني» وهذا يعني بأن علينا أن نكون مستعدين دائماً إلى تغيير أفكارنا ورؤانا متى ما أيقنا فعلاً أن الصواب يكمن في ذلك.
ومع أن التحول الفكري يعد بحد ذاته قيمة من القيم السامية؛ إلا أن هناك من قد يصفها بأنها من القيم التي يمكن أن يتم استغلالها لتحقيق مكاسب سياسية أو اجتماعية، وهو ما يدفعنا إلى تقسيم التحول الفكري إلى دوافع أربعة:
أولها: التحول بدافع عقلاني:
فإن هذا النمط من التحول هو ما نعنيه حقاً في مقالتنا هذه، فالذي يتخذ قرار التحول العقلاني لا بد أن يكون قد مرّ بمرحلة فكرية قلقة ومضطربة ومشحونة بالشكوك بحيث أدت به إلى أن يقوم بمراجعة متأنية لأفكاره السابقة، كما ولا بد أيضاً أن يكون قرار تحوله مستنداً إلى أدلة واضحة وبراهين ساطعة، حيث إن التحول الفكري الذي لا يستند إلى برهان عقلي وإنما بناءً على الحيرة والاضطراب وعدم وضوح الرؤية لا يمكننا أن نطلق عليه تحولاً عقلياً، فالذي يتحول إلى الإلحاد مثلاً إنما يتحول بدافع عاطفي لا عقلي، ذلك أن إلحاده نشأ لانعدام الدليل على وجود الخالق بزعمه، وليس لأنه يملك دليلاً على عدم وجوده.
ثانيها: التحول بدافع عاطفي:
وهذا الدافع يعد هو الأكثر شيوعاً بين الأوساط الشعبية، فالخطبة المؤثرة، والقصيدة الرائعة، والخبر الإعلامي المتقن، والصورة التلفزيونية الدقيقة، كفيلةٌ بأن تغير أكثر الأذهان صلابة وأن تقلب الموازين مهما كانت ثقيلة، ومن هنا تأتي أهمية إدراك ضرورة الموازنة في الخطاب بين العقل والعاطفة، إذ إن الناس متفاوتون في قدراتهم الإدراكية، فمنهم من تقوده العاطفة وهؤلاء هم الأكثر، ومنهم من يقوده العقل.
لكن علينا قبل ذلك أن ندرك بأن التحول العاطفي لا يقود صاحبه إلى اليقين في الغالب، إنما هو فقط يبعث في داخل النفس الإنسانية شيئاً من الرضا، لكنه لا يلغي أبداً حالة الاضطراب الفكرية التي قد تنشأ من بعض الأسئلة التي تعد عند كثير من العقلاء ضرباً من ضروب التمرد الفكري، فكثير من الانحرافات الفكرية مثلاً تطرأ بعد صَدمات نفسية تدفع بالمرء إلى أن يطرح بعض الأسئلة المحيرة، وحين يصبح هذا المرء عاجزاً عن إيجاد تفسير حقيقي لها؛ فإنه يقوم باتخاذ قرار التحول إلى فكر آخر هو أقل عقلانية بكثير من الفكر الذي تحول عنه، وعليه فإن مثل هذه التحولات لا يمكن أبداً أن تدخل ضمن نمط التحول العقلاني، إنما هي من قبيل التحولات العاطفية أو الرومانتيكية إن صح التعبير.
ثالثها: التحول بدافع سياسي:
فحين تسيطر المادة على فكرِ شخصٍ ما فإنها حينئذٍ تكون هي المحرك الرئيسي لأفكاره، والذي دفعني حقاً إلى أن أبدأ بهذه المقدمة هو رغبتي بأن أبين بكل وضوحٍ أنَّ أي تحول بدافع سياسي هو قائم أصلاً على بُعدٍ مادي، فالتحول السياسي هو بلا شك تحول مادي بالضرورة، فالبحث عن المنصب والخوف على الوظيفة مثلاً يعدّان أحد أبرز أسباب التحول السياسي، وهما ذات بعدٍ مادي، ولو افترضنا - على سبيل المثال- أنّ حاكماً تحوَّل من المذهب الشافعي إلى المذهب الحنفي، فماذا بربكم سيكون حال القضاة الذين هم على خلاف مذهب الحاكم، لا أشكُّ بأن أعداداً كبيرة ستتحول إلى نفس المذهب الذي تحول إليه الحاكم، وسيكون هؤلاء القضاة وبطرفة عينٍ أنصاراً لمذهب أبي حنيفة بعد أن كانوا بالأمس من أنصار مذهب الإمام الشافعي.
رابعها: التحول بدافع اجتماعي:
وهذا النمط من التحوّل هو الأكثر سذاجة، فصاحبهُ لا يبحث إلا عن تحقيق السمعة الحسنة والذكر الطيب لنفسه في أوساط المجتمع، كما أنه يكرس من تنامي ما يسمى بالنفاق الاجتماعي، وهو كذلك يساهم في تأخر المسلمين حضارياً وفكرياً بحكم سيطرة العقل الجمعي على معظم قراراته وأحكامه.
إن تحول أي فرد من فكرٍ منطقي برهاني حرّ إلى فكر جمعي مقيَّدٍ يُعدّ انتكاسة فكرية بكل المقاييس العقلية، ونحن نقرأ ونستمع بين فينة وأخرى إلى عدد لا بأس به من انتكاسات بعض العلماء، فالعالم مثلاً حين يفتي بمسألة ما مما يسوغ فيها الاختلاف نجده بعد فترة قصيرة يعلن تراجعه عن فتواه السابقة بسبب ضغوط العقل الجمعي عليه، فالتراجع عن الفتوى بدعوى عدم تقبل الشعوب لها يعدُّ تحولاً فجاً يستحق كماً هائلاً من صيحات الاستهجان.