(أ)
إن كانت المقولة الكبرى: (الحاكميّة لله) مقولةً لها جذور تاريخيّة بدأت منذ الانشقاق الديني-السياسي عن الكيان السياسي الأوّل في أحداث (الردّة السياسيّة، الفتنة الكبرى، الخوارج) والتمعّن فيها يدلّل أكثر على أنّ الإسلام كرسالة دينيّة جاء ليخلع القدسيّة عن الحاكم ويسحب منه قدسيّة الدين واستغلاله ويعيده إلى إنسانيّته ودنيويّته، أمّا مقولة: (الإسلام دين ودولة) فإنّها مستحدثة بعد سقوط الدولة العثمانيّة، إذ أنّ وقائع العهدين النبوي والراشدي لا تكشف عن خلط أو جمع بين الديني والكيان السياسي كما حالها اليوم في خطاب الديني-السياسي، وإن كان ثمّة أدلّة موجودة وقاطعة في المتن ما كنّا لنرى القوم يتخبّطون في استنتاجات وتأويلات تاريخيّة لتلبيس الدنيويّ لباس الديني، وهذا اللبسُ من الخطورة أنّه يحاكم التاريخ وإيمان وتقوى ممثّلي أحداثه حينما يخلط بين أعمالهم السياسيّة إلى جانب صفوة إيمانهم.
تأتي مقولة (الإسلام دين ودولة) كوسيلة اتّقائية وسياسية: بحيث الابتعاد عن الهدف العام من ورائها: وهو: (الدولة الدينيّة-الخلافة-الإكليروس/سلطة رجال الدين-محاربة العلمانيّة/الجمع بين الدين والسياسة)؛ وهي مقولة لا تستند إلى المتن القرآني، وليس لها في الوقائع حجّة حاسمة، إلاّ إذا اعتبرنا أنّ وجود الكيان السياسي الذي أسّسه المسلمون الأوائل هو جزءٌ من الدين، أيّ أنّ الإسلام/الدين هو المؤسس وليس المسلمون، وأنّ التأسيس الذي تمّ على يد أفرادٍ إنّما لم يكن بصفتهم الإنسانيّة الدنيويّة، بل بصفتهم يمثّلون الدين/المقدّسة ويطبّقون تعاليمه ويحصلون من وراء ذاك التمثيل على بركة الدين، وهو القول الذي سوف نعارضه في هذا المقام على قدر ما يقتضيه العرض المقالي، فثمّة فرق كبير بين قولنا: (الإسلام دين ودولة)، وبين قولنا: (تاريخ الإسلام دين ودولة)، فهذا قول يدّعي أنّ الدينَ أسّس الدولة، وذاك قول يستند إلى واقع تاريخيّ بوجود الدولة/الكيان السياسي إلى جانب الدين؛ فإلى أيّ العبارتين تأخذنا قراءة وقائع الرعيل الأوّل، وهي الوقائع التي يستند عليها الخطاب الديني-السياسي بطريقة يتجاوز فيها عن الدنيويّ في الوقائع الأولى ويلحقها عمداً بالدين، فالأصل في المحاججة أنّ نأخذ من الخطاب الديني أهم ما لديه من حججٍ يستخدمها في تثبيت ما ذهب إليه: (أنّ الإسلام دين ودولة) على دلالة الجمع بينهما تحت مظلّة الدين ومن يمثّلون الدين، وهو ما يمكن تفكيكه كحجّة تاريخيّة على الفصل بين الديني والسياسي عند قراءة وقائع الرعيل الأوّل دون إسقاطات وتأويلات.
(ب)
تدلّ مقولات الخطاب الديني-السياسي الرئيسة: (الحاكميّة لله، الإسلام دين ودولة، الشريعة الإسلاميّة، فساد الإنسان وتأثيمه، الفرقة الناجية) إلى مضمون يضع الفكر فوق الواقع، والقيم التصوّرية لهؤلاء الأدعياء فوق واقعية وماديّة الدولة: (يعني: الداعية يرى نفسه فوق الدولة لأنّه يحمل دعوة دينيّة، والدين فوق الدولة)، وهنا نقطة خطيرة جدّاً، لا بدّ من توضيحها بصياغات عدّة؛ حينما يكون إيمانك أنّ المعتقد والديانة مسألة محض فرديّة وحالة خشوع بين الإنسان ومعتقده، وأنّ هذا الإيمان مسألة حريّة شخصيّة، وأنّك تنتمي إلى دولة تحارب استغلال الدين ولا تسمح بين مواطنيها من يدّعي أنّ للدين ممثّلين، حينذاك فإنّ الإيمان بأنّ الدين فوق الدولة لا يجرح الدولة بل يعصمها من الاستغلال الديني باسم الأسمى والأنقى، على أن يخلو هذا الاعتقاد من تحميل هذه الفوقانيّة مسؤولية الدولة وتسييرها؛ فالفوقانيّة في هذه الحالة تكون على دلالة الفصل التام، لأنّ قوة الدول وضعفها تتأثر بشروط مادية لا شأن لها بالإيمان وبالكفر؛ أمّا إذا كان اعتقادك أنّ الدينَ فوق الدولة بدلالة أنّه راعي الدولة ومسؤول عنها وعن قوانينها ومكوّناتها فإنّك تستغل الدين والدولة معاً؛ وهذا مأزق تعريفهم للخلافة: (سياسة الدنيا بالدين نيابة عن صاحب الدعوة النبي العربي عليه السلام)، وأنت بذلك لا تضع الدين في مكانه السامي الذي يجب أن ينتمي إليه، إنّما تحطّ منه أرضاً وتحمّله مسؤوليات قوة وضعف الدولة، وتَخرجُ منه بنتائج لا يطيق المؤمن الصادق الواعي على حملانها، فنقع في الدائرة الموهومة: (الخطأ في التنفيذ وليس في الفكرة)، وهذا مفاد قولهم حينما يتفلسفون عن ضعف الدول العربيّة والإسلاميّة: (نحن لا نطبّق الإسلام؟! أو نحن بعيدون عن الإسلام!) سَلْ هؤلاء الذين يربطون المعتقد بقوة وضعف الدول: هل يعجبهم إسلام حكّام بني أميّة والعبّاس وبني أرطغرل عثمان؟! هل طريقة حكمهم هي عين الدين؟ فهؤلاء الخلفاء صنعوا تاريخاً وحضارة وقوّة وحكموا أصقاع الأرض، فهل الدين قادهم إلى تلك القوّة والسيادة؟ أم الأخذ بالأسباب الماديّة في العيش والتفوّق والقوّة؟
ومن هنا، أعود إلى سؤال نقد المقولة: ماذا يعني الإسلام دين ودولة؟ أيّهما يحمي الآخر؟ هل هما واحدٌ متّصل أم هما اثنان مختلفان منفصلان؟ هل من خلاف على مستوى الواقع أنّ الدولة قادرة نظريّاً على حامية المتديّنين وإباحة حريّاتهم الدينيّة لأنّها قائمة واقعاً على الأرض ولها تمثيل دنيويّة! فأسباب الحيطة والحذر والاستعداد الضعف والقوّة وكلّ ما هو ماديّ وسببي يدخل في صميم الواقع المرتبط بالدولة، بينما الدين كمعتقد شخصيّ ليس مسؤولاً عن هذه التقلّبات الماديّة، فهو معتقد وليس مادّة، ولذلك فإنّ فإنّ القراءة الماديّة لوقائع الهجرتين: (الحبشة والمدينة) ومعارك أُحد وحنين وحصار الأحزاب وخطّة حفر الخندق وبنود صلح الحديبيّة والأخذ بأسباب القوّة والتحوّط والاستعداد كلّ هذه التفاصيل تأخذنا أكثر إلى ماديّة الكيان السياسي، وإلى أنّها مسائل متعلّقة بطبيعة في الدنيا وليس طبيعة في الدين، فالدين لله وهو غير خاضع للهزيمة والنصر. أمّا إذا عدنا إلى المقولة وأعدنا صياغتها وقلنا:(تاريخ الإسلام دين ودولة) لابتعدنا عن التناقضات بين واقع التاريخ الإسلاميّ الأوّل بوصفه تاريخاً طبيعيّاً تضمّن رسالة دينيّة عظيمة إلى جانب طموح إنساني بتأسيس كيان سياسي يحمي الناس في حقوق معتقدهم ويخضع هذا الكيان للأسباب الماديّة، وبين الادّعاء أنّ الدين والكيان كانا على وحدةٍ واحدةٍ، ممّا يمهّد إلى حالة تقديس الحاكم أو ادعاء شرعيّة رجل الدين في الدولة.
(ج)
لم يقدّم الإسلام بوصفه ديناً نظريّة سياسيّة ألزمت المؤمنين باتّباعها، وأنتَ لن تجد في المتن القرآني، أو فيما ينسب للنبي العربي عليه السلام من مرويّات تحسم شكل ومضمون السياسة الأولى لهذا الكيان بوصفها جزءاً من الدين، وإن كانت الحجج متوفّرة فما كنتَ لتجد القوم منذ سقوط الخلافة العثمانيّة مختلفين وعاجزين عن الإثبات حتى يومنا هذا؛ فالقول بإنّ الإسلام دينٌ ودولةٌ يستوجبَ وجود شكل ومضمون لهذه الدولة الإسلاميّة في المتن الإسلامي المقدّس، وهو ما يعجز أحد عن الإتيان به، كما أنّه قولٌ يجرح الرعيل الأوّل في فهمهم للمتن الديني ويحمّلهم خلطاً بين تقواهم وهداهم وبين أعمالهم السياسيّة: وهذا أساس المدخل الذي يعتمده خصوم الخلفاء الثلاثة حينما يستغلون أعمالهم السياسيّة (وهي الخاضعة لميزان الخطأ والصواب) فيخلطون بين أعمالهم التي تحمل وجهات نظر متعدّدة (ومنها الخطأ) ثمّ يقوّمون باستغلال ذلك لمحاكمات تفتيشيّة في إيمانهم وتقواهم وهداهم، وكلّ ذلك بسبب الخلط بين الدين والسياسة، وما كان لهذا الباب أن ينفتح إن قرأنا التراث بعين واقعيّة تفصل ما بين الدين والسياسة. ومرّة أخرى نقول: إن كان الإسلام بوصفه ديناً قدّم شكلاً ومضموناً لكان حريّاً بهذا الشكل والمضمون أن يكون واضحاً وظاهراً في وقائع انتقال السلطة السياسيّة بين خلفاء الرعيل الأوّل، ولم نكن لنرى نزاعاً على انتقال الأمر بينهم في آليّة ومضمون نقل السلطة، (لأنّ) آلية نقل السلطة هي من أسس أشكال ومضامين الكيانات السياسيّة والدول، وخلوّ أيّ فكر منها يبعده عن كونه قدّم نظرية في الدولة.
(د)
تشير الوقائع إلى أنّ الإسلام بوصفه ديناً لم يقدّم نظرية وآليّة لنقل السلطة وما يترتّب على ذلك من أعمال هي في صلب الكيانات السياسيّة، فكيف يفسّر ويدافع أصحاب الخطاب الديني عن مقولتهم (إن الإسلام دين ودولة) ونحن في معرض قراءة أحداث السقيفة، وكيف آلت المفاوضات بين المهاجرين والأنصار، حتّى انتهى الأمر إلى خلافة أبي بكر الصدّيق، مع ظهور معارضة متعدّدة: (بني هاشم، الأنصار، بعض كبار الصحابة)، وهذا واقع إنساني يستغلّه القائلون بالخلط بين الدين والسياسة، ولم يخلو حتى في الكيان السياسي الذي كان النبي عليه السلام يتزعّمه بوصفه إلى جانب النبوّة والرسالة فإنّه كذلك زعيم كيان سياسي، وهو المحلّ الذي شُغل بوفاته وعليه وقعت لفظت (خليفة) فلا خلافة في محلّ النبوّة والرسالة إنّما الخلافة في محلّ شغور رئاسة الكيان السياسي وفي ذلك حجّة إضافيّة على الفصل بين الديني والسياسي، فنحن نقرأ تاريخ صلح الحديبيّة ونسمع اختلافات وجهات النظر بين كبار الصحابة على بعض البنود، لكنّنا نفهمها عبر الفهم الماديّ من باب فن الإدارة السياسية والتفاوضيّة. وبالنظر إلى آليات نقل السلطة، فإنّ الرعيل الأوّل لم يكن يرجع إلى مرجع ثابت يسترشد به ويتمثّله، وهذه النتيجة تخبرنا بها تعدّد أشكال انتقال السلطة بينهم: (طريقة بيعة أبي بكر، طريقة استخلاف عمر بموجب ولاية عهد، طريقة إمارة عثمان بموجب مجلس مصغّر) وهو ما يؤكّد عدم وجود نموذج ثابت ديني، ويثبت بطلان المقولة. هكذا نفهم أنّ التاريخ الإسلاميّ بمن مثّله من المسلمين الأوائل قدّموا كيانات سياسيّة متعدّدة الآليات، واجتهد العديد منهم سياسيّا في ابتداع أشكال ومضامين سياسيّة في زمن خلافته تمكيناً لسياسة الدنيا بمستجدّات ومتقلّبات الدنيا.