تحدث كثيرون عن اختطاف التربية والتعليم، وأقر بذلك قياديون في المؤسسة التربوية، وتذمر آخرون ينتفعون من هذا الاختطاف. ومن منتجات هذا الاختطاف صناعة جفوة مدهشة بين التربية وبرامجها والإبداع بفروعه وأشكاله، وهي جفوة صنعها رواد الانغلاق والأمية الإبداعية.
لم تنشأ الحالة بين طرفة عين وانتباهتها بل تجذرت بفعل وإرادة وتخطيط محكم لتهيمن رؤية أحادية على مفاصل العمل التربوي، امتدت إلى المعلمين والمقررات وصولاً إلى «الأنشطة اللاصفية» والبرامج الإثرائية.
ومهما أوتيت الوزارة من قدرة رقابية فلن تتمكن من صد هذه السهام المخاتلة التي تضرب أسس العملية التربوية ما لم تعترف بالخلل، وتتبنى خططاً واضحة، وتعيد إلى الميدان وهجه الثقافي والفني الذي عرف به منذ عقود، وتراجع القيم التربوية والثقافية التي سادت في المؤسسات المدارس الكبرى، وفيها تخرج عدد كبير من رموز البلد ورجالاته ومثقفيه. وقد أصدر عدد منهم مذكراته فكشف التسامح الجميل السائد والبرامج الثقافية والفنية التي يقوم عليها معلمون أكفاء، وترعاها وزارة نشطة متوثبة، لا تضيق بالجمال والإبداع والفنون، وتعترف ببنائها للذات بكل انفتاحها وتسامحها وانطلاقها في فضاء الله الرحب بلا تأطير، أو قمع، أو تشويه، أو وصاية تحد من مواهب الفرد.
ومن يتأمل الميدان التربوي يلاحظ غياب البرامج الثقافية، وهي من أهم أدوار التربية، وخلالها تنمو المواهب المختلفة التي تتشكل مع الأيام، وتغذي الساحة الثقافية بشكل عام. وهذه البرامج تشمل المسرح والإلقاء والصحافة المدرسية والكتابة الإبداعية، ويدين لها كثير من المبدعين والمسرحيين والكتاب. وقد أعاد الأستاذ أحمد الدويحي قبل أسابيع مقطعاً تصويرياً لفتيات ينشدن داخل فصل دراسي بجدة، وتأسف كثيرون على غياب هذه البيئة المتسامحة، فتذكرت ما كتبه الشاعر محمد إسماعيل جوهرجي في كتابه «قبل النسيان» وهو من أعمدة مدارس الثغر بجدة في ثمانينيات القرن الهجري الفائت: كانت مدارس الثغر تقيم في كل شهر حفلاً خطابياً، تستدعي فيه أحد رواد الفكر علماً وثقافة.. وغالباً ما يكون موعد الحفل بعد صلاة العشاء. يدعى إليه جمهرة كبيرة من المهتمين بالثقافة والفكر.. كما أنها تقيم حفلاً ختامياً آخر كل عام، يحضره أولياء الطلبة، على شرف الملك فيصل وثلة كبيرة من علماء المملكة والصحافيين، وتقدم فيه القصائد وقطع موسيقية من عمل الطلبة ومسرحيات هادفة تنال إعجاب الحضور غالباً.
وفي كتابه ذاكرة على السطح يكتب الفنان التشكيلي أحمد فلمبان عن الحياة الثقافية والفنية في المدرسة العزيزية الثانوية بمكة عام 1384هـ، برعاية مديرها محمد سليمان الشبل، والمراكز المتقدمة التي حققتها المدرسة سنوياً في الموسيقى والغناء، وحفلاتها السنوية. وكان من زملائه في تلك الفترة هاني فيروزي، عبدالله خياط، محمد عيسى فهيم، وعبد المحسن هلال...
ثم يروي تفاصيل موافقة ورعاية معالي وزير المعارف حينذاك حسن عبدالله آل الشيخ على ابتعاثه مع مجموعة من الطلاب المميزين في التربية الفنية إلى إيطاليا لدراسة الفنون!
ويهدي الإذاعي المعروف عدنان صعيدي كتابه «على الموجة القصيرة» إلى أستاذيه أحمد شبلاق وخالد النفيعي. والأول أدخله الإذاعة المدرسية في المدرسة السعودية بمكة، والثاني جعله رئيساً للإذاعة المدرسية بالمدرسة الرحمانية. فإلى من يهدي هذا الجيل إبداعاتهم؟ وهل سيتذكرون شيئاً من برامج الإبداع في مدارس اليوم؟!