يظلم الكثيرون هذا الأديب الأريب، حين يتحدثون عنه بوصفه فيلسوفًا عظيمًا فقط، متجاهلين أنه كان أيضًا شيخ الأدباء وسيّد كتّاب النثر الإغريقي قاطبة.
حديثنا اليوم عن تلميذ سقراط العظيم أفلاطون الحكيم، الذي بدأ معه ومنه التاريخ الأساسي للميتافيزيقا الأوروبية.. عاش في أثينا من عام 427 إلى عام 348 ق.م. تقريبًا، وهذا هو الذي ترجّح عندي بعد طول بحث، رغم تضارب الأقوال في ذلك، خاصة في تاريخ ولادته. وكان ينتمي لعائلة عريقة، فهو سليل الصفوة السياسية، وكان محافظًا بسبب تقاليد هذه العائلة، ولذلك نظر إلى الديمقراطيين والسفسطائيين على أنهم أعداء.
يُعتبر -بلا شك- من أعظم رواد الفلسفة الأوائل، الذين وضعوا الأسس الأولى لها ولعلوم مختلفة أخرى، على رأسها «الرياضيات» التي اهتم بها كثيرًا، فللأعداد والعلاقات الرياضية أهمية بالغة وارتباط وطيد بفلسفته.. وقد يشوّش الإسهاب في هذا على المتلقي المبتدئ المستهدف بهذه السلسلة، الذي يكفيه أن يعرف -كمفتاح- أن للعالم المعقول عند أفلاطون انسجامًا عدديًا وتناسقًا رياضيًا، قائمًا على اقتناعه بأن العلاقات الرياضية تبقى دائمًا منطقية ثابتة، لا تتبدل ولا تتغير.
فما هو هذا العالم المعقول؟ وما الفرق بينه وبين العالم المحسوس؟!
قد تكون الإجابة عن هذا السؤال أفضل مدخل لفلسفة أفلاطون، لأننا بهذه الإجابة سنسلط الضوء على ملمح من أبرز الملامح العامة لفلسفته..
لقد كان أفلاطون يرى أن عالم الأفكار هو الأساس، أي أن كل شيء موجود في عالم الأفكار والوقائع الأبديّة والمثل النموذجية، ثم ينتقل بعدها أو منها إلى عالم الحوّاس.. لقد كان يصرّ دائمًا على ذلك.. يصر على وجود عالم آخر بعيد لا يعرفه إلا العقل الخالص فقط، وهو «العالم المعقول»، عالم النماذج والأفكار والمثل الأبدية، المستقلة والبعيدة تمامًا عن عالمنا القريب الذي تدركه حواسنا.
إذن، كان يقسّم الوجود إلى وجودين: ما هو معقول وما هو محسوس، الأول: ما يُدْرَك بالعقل، وهو الذي يمثل حقائق الأشياء.. والثاني: ما يُعرف بالحواس، ويشتمل على خلط وغموض ويدخل فيه كثير من الوهم واللبس وخداع البصر وبقية الحواس.
ويبدو أن أفلاطون كان مغرمًا بالتقسيمات، كما سنلاحظ كثيرًا، فقد قسّم الجسم الإنساني إلى ثلاث درجات، في كل درجة منها نفس، وفي كل نفس فضائل، ففي الرأس النفس العاقلة، مكان فضيلة الحكمة والعقل.. والنفس عنده هي العقل، أو لنقل: العقل عنده هو الجزء الأهم من النفس، وهو -أي العقل- الحاكم الصالح على الكل، الذي يوجّه كل سلوكيات الإنسان وفق ما يراه ويختاره.. ويُستحسن الرجوع إلى تعريف «السلوك» الذي شرحناه سابقًا؛ لاستيعاب هذه النقطة بشكل أفضل.
وفي الجذع أو الصدر، نفس أخرى، أو جزء آخر من النفس، تجري فيه فضائل وانفعالات عليا كالحب والغضب والإرادة والشجاعة وغيرها من الصفات المشابهة.. وفي أسفل الجسد (البطن وما حوله وتحته) تتمركز «وحشية الإنسان» متعددة الرؤوس، ففي هذا المكان توجد الحاجات الحيوانية، والرغبات الجسدية، والغرائز الدنيا، والشهوات الأرضية، التي تتجلى فضيلة «العفة» إذا نجح الإنسان في الانتصار عليها.
ولكل ذلك، تدور دائمًا صراعات عنيفة ومعارك حامية الوطيس، بين القائد الأعلى وهو «العقل»، بمساعدة جنوده «الانفعالات العليا»، للسيطرة على جيش «الشهوات والغرائز الجسدية» وكبح جماحه وإخضاعه لسلطة العقل الملك.
كلنا نحلم ونعلم أن أحلام الإنسان لا حدود لها، ففي حياة البشر أحلام لا تنتهي، منها ما هو فردي، ومنها الأحلام الإنسانية الجماعية؛ وهي ما يهمنا هنا.. ومن هذه الأحلام الجماعية السامية -التي يشترك فيها كثير من البشر العقلاء الحكماء- الحلم بالدولة المثالية نموذجًا للنظام العادل المتكامل، وكتاب صاحبنا الجمهورية (الدولة) من أشهر الأعمال الرائدة التي أعطت لهذا الحلم شكله المنطقي وألبسته ثوبًا عقلانيًا إن صح التعبير.. فهو أول كتاب وصلنا عن تخيّل الدولة المأمولة والمجتمع الفاضل.
أراد أفلاطون من خلال هذا الكتاب ربط السياسة بالأخلاق، وربط النظام السياسي بقوانين الواقع، لإحداث نقلة كبرى فانطلق من قضية العدالة، ووصل إلى أن النظام العادل هو النظام الذي يُبنى على أسس ثابتة لا تتغير مهما مرت العصور. وصورته أن يحكم الدولة أفضل العناصر من حيث الحكمة والسلطة معًا.
إنه كان يحلم بالملوك الفلاسفة لدولة النظام العادل، فهؤلاء الملوك الحكماء ليسوا قادة سياسيين فحسب، وإنما هم قادة روحيون في الوقت نفسه.
والجميل في الكتاب أنه ليس جافًا ككثير من الكتب، بل يشعر القارئ أنه يقرأ رواية ذات مشاهد عالية المستوى. فأستاذ أفلاطون سقراط، يظهر كشخصية أدبية تقوم بدور المتحدث الأساسي والراوي، وأفلاطون يظهر في صورة الشاعر والفيلسوف.
إذن، نستطيع أن نصف الكتاب بأنه رواية حوارية كتبها أفلاطون على لسان شيخه العظيم سقراط، وقدّم لنا فيها شخصيات كثيرة أخرى، من المقربين منه، في قوالب فنية قصصية جميلة ساحرة، شارك فيها بعض إخوته مع معلمه سقراط -كما أسلفت- ومعهم عدد من المشاركين الآخرين من أبناء التجار ورموز المجتمع، وغيرهم من أهل أثينا تلك الفترة.
وكل تلك النقاشات التمثيلية المصورة بقلم أفلاطون، كانت تناقش أسس النظام الاجتماعي العادل، وكيف يجب أن يكون حال وشكل الدولة المثالية، ومن هم الجديرون بالحكم النافع؟ وأسئلة كثيرة أخرى في نفس القالب ومن هذا القبيل.
ولذلك يمكن أن تُقرأ تلك الحوارات لا على أنها فلسفة مجردة، بل بوصفها أدبًا رفيعًا أيضا، لا سيما أن أفلاطون كان يظهر دائمًا كأديب حكيم.
لقد كان أفلاطون يرى أن الإنسان بعد أن تفنى أعضاؤه يبقى عقله، الذي هو النفس الخالدة .. أو العكس بتعبير أدق، أي تبقى النفس الخالدة وهي العقل .. والناس عنده يرتبطون بانعكاسات الأفكار التي يرونها في عالم الإحساس .. فالظواهر الطبيعية ليست أكثر من ظلال الأشكال والأفكار الأبديّة، فعالم الأفكار عنده (أزلي ثابت نموذجي) مستعص على الحواس، وبعيد عن قدراتها، كما بيّنا أعلاه .. أما عالم الحوّاس فلا يدوم فيه شيء، وهو في حالة تحوّل وتغير مستمرين، ولا يوجد فيه مدى نهائي لأي شيء، فالأشياء فيه تولد وتموت .. وهكذا.