تقترب بعد أيام الذكرى الرابعة على رحيل العالم اللغوي المفكر الأستاذ الدكتور تمام حسان – طيب الله ثراه – وليس غريبا أن تظل ذكرى تمام حسان باقية في وجداني ووجدان الكثيرين من الأجيال التي تشرفت بالأخذ عنه، وهو صاحب فضل على العربية وأهلها في العصر الحديث، ذلك أن ما قدمه أستاذنا يعد قفزة كبيرة من قفزات التفكير النحوي – وهي بطبيعة الحال قفزات تعد على أصابع اليد الواحدة في تاريخنا اللغوي –
والدكتور تمام حسان من القلائل الذين حاولوا تقديم رؤية شاملة لمعالجة الدرس النحوي من خلال الاعتماد على نظرية القرائن النحوية التي تعد بديلا لما هو مستقر عليه في الدرس النحوي من نظرية العامل.
وهي نظرية معتمدة في الأساس على منهج وصفي مستمد من مجموع العلاقات اللفظية والقرائن غير اللغوية التي من خلالها يمكن تقديم معالجة شاملة وواقعية لتراثنا النحوي.
وبهذا المنهج القرائني تعامل أستاذنا مع النص القرآني، وكانت له وقفات عديدة مغايرة لما استقر عليه جمهور المفسرين من فهم وتأويل لكتاب الله تعالى.
وليس من هدف المقالة الانتصار لأحد الرأيين، وإنما الغرض منها: الوقوف على نموذج مختلف لإمكانات التأويل، ولا سيما أن النص القرآني يتحمل – بطبيعته – العديد من التأويلات التي تكون مقبولة أو مرفوضة بحسب المتلقي لها.
وسوف أوضح اختلاف تلقي تمام حسان للنص القرآني عن كثير من الفسرين، فمن ذلك قول المفسرين في قول الله تعالى : «واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث....» حيث ذكر أغلب المفسرين أن القرية هي «أنطاكية» وأن الرسل هم رسل عيسى عليه السلام، وهم صادق ومصدوق والثالث المعزز به هو شلوم أو سمعون.
وهذا فهم خاطئ للنص من وجهة نظر أستاذنا لعدة أسباب منها :
- أن هؤلاء الرسل من الله عز وجل وليسوا رسل عيسى، ولذا جاء الكلام «أرسلنا» ولو كانوا رسل عيسى لقال «إذ أرسل عيسى».
- أن القرية المقصودة هنا «مصر» وليست أنطاكية، والمعزز به الثالث هو الرجل المؤمن من آل فرعون، وأن الاثنين المرسلين هما موسى وهارون عليهما السلام، وربما كان منطلق أستاذنا في هذا التأويل استناده على «نا» الفاعلين في «أرسلنا» العائدة على الله عزوجل.
- ومثال آخر يتضح فيه التأويل المغاير للمفسرين في قوله تعالى «وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة» ،والذي عليه جل المفسرين أن أباهم أمرهم بالدخول من أبواب متفرقة خشية الحسد وأنفس الناس لأنهم كانوا على صورة جميلة في الخَلق، ونجد تمام حسان يأخذ موقفا مغايرا في التأويل ويرد رأي المفسرين السابق، ويعلل ذلك بأن دخولهم مجتمعين من باب واحد في وقت المجاعة والفقر ومع كثرة الناس المشغولين بقضاء حاجتهم من الحصول على الميرة، فلا أحد سيميز أخوة هؤلاء أو غيرهم فقصدية الحسد هنا غير متحققة اعتمادا على المقام والحالة التي يعيشها المجتمع.
وقد قدم تمام حسان تفسيرا آخر هو أقرب للقبول من وجهة نظري، وهو أن أمر أبيهم لهم بهذا جاء خوفا من بطش الحاكم أو توقع حدوث مكروه من الممكن أن ينزل بهم والحالة هكذا، فدخولهم من باب واحد يجعل هلاكهم جميعا متحققا في حالة حدوث المتوقع، وإنما دخولهم من أبواب متفرقة حتى يكونوا أقرب للهروب من الشر إذا كان هناك غدر يحاك لهم.