«هل المنفى هو مكانٌ نسافر إليه أم مكانٌ يرحل عنّا، وهل نحن نرسم حدوده؟ متى يتوقف ومتى يعود؟!» هدى بركات
كلاكيت 1
بلادك هي علمٌ نظيفٌ يرفرف في ميدانٍ كبيرٍ على ساريةٍ عاليةٍ، وهي الاستعراضاتُ العسكريةُ والمسيراتُ الصاخبةُ في اليومِ الوطنيّ، وهي الأسرةُ السعيدةُ التي تضع شعارَ البلد على زجاجِ السيارِة وعلى صدورِ الأولادِ، وهي التحيةُ التي يؤديها العسكريُ -كما تتخيلها صديقتي- والمنزلُ الكبيرُ الواسعُ بأشجارِ الياسمين التي تشكّل سورَه، وابتسامةُ شرطي المطار حين تدخله آمنًا، والأغاني الوطنيةِ التي تجعل قلبَك يدقّ مثل الطبول الأفريقية حماسًا!
إن كنتَ غير مقتنعٍ بهذا كله، اقرأ السيناريوهات الآتية!
كلاكيت 2
تسكنُ بلدًا لا تعرف غيره منذ وُلدتَ، تعرف حدودَه وعدد سكانه وتاريخه، وتحفظُ نشيده الوطني وألوانَ علمه ويومَ استقلاله وطباعَ أهله أكثرَ مما تعرف عن بلدك المسجل في أوراقك الثبوتيةِ -ألستَ ملكيًا أكثرَ من الملك؟- لكنّ ذلك كله لا يؤهّلك لتكونَ واحدًا من أبنائه، وفي لحظةٍ ما سيطلب منك هذا البلد -الذي لا تعرف غيره منذ ولدت- أن تحملَ حقائبك وتغادرَه إلى بلدك المسجّل في خانة الجنسية، ويقال إنه بلدك الأم، لكنها ليست أمك حتى من الرضاع!!
إن كنتَ تظن الصورة قاتمة انظر إلى كلاكيت1!
كلاكيت 3
تعيش على أرضٍ يقال إنك من أبنائها، وتملك فيها منزلًا جميلًا -أو حتى قبيحًا لكنه لك وحدك- وتذهب إلى عملك كلَ يومٍ، وتشعر بالاستقرار وبعض الراحةِ لأنك تكبر عقلك وتقفل فمك فالجدران لها آذان بحجم البلد، وحين امتلكت الشجاعة لتتحدثَ غير عابئٍ بالجدران وآذانها، بدوتَ كمن فتح «صندوق بندورا»، وهاجمك «وحش تسمانيا» بقدومٍ إعصاريٍ مخلفًا حطامًا لا يمكن إصلاحه -ليس في المدى المنظور على الأقل- وستعرف أنه يتعين عليك الخروج إلى خيمةٍ بمسمّى لاجئ!
الصورةُ دمويةٌ بعض الشيء، لم لا نعود إلى كلاكيت1؟!
كلاكيت 4
البلد الذي يذكرك يوميًا أن إقامتك فيه مؤقتةٌ وعليك تجديدها مرةً كل ستةِ أشهر، ولا تعرف فيه أحدًا ولا يعرفك أحد، ولا يقرعُ بابك سوى عامل المصبغةِ الذي تفتح له البابَ فيعتذر إليك لأنه أخطأ في رقم الشقة، فتسقط في هوّةِ عزلتك التي حملتها معك من بلادك مثلما حملت علبةَ دوائِك وجهاز قياس الضغط وحقيبةِ ثيابك القليلة، لأنك كنتَ تؤمن أنك ستعود خلالَ شهرٍ أو اثنين، وتمضي سنواتك وأنت تقول لنفسك إنك لن تكثرَ من المتاع لأن إقامتك مؤقتة!
إن كنت ترى أنّ المشهد حزينٌ جدًا عد إلى كلاكيت1!
كلاكيت 5
تسعى في هذه الأرض الواسعةِ بحثًا عن بلادٍ تمنحك الأمان والطعامَ، وتنتقل من مكانٍ إلى آخرَ من أجل ذلك، كأنّك تعيد تاريخَ جدك الذي كان يبحث عن موطن الكلأ والماءِ، وفي كلِ مرةٍ تنتقل فيها إلى مكانٍ جديدٍ وتحضّر حقيبتك، تتصاعد في ذهنك الصور التي درستها في الصف العاشر في كتاب الأدبِ الذي يحدّثك عن الظعائنِ، وتستحضر في أثناء إغلاقك لباب البيتِ الذي سكنته وقوفَ امرئ القيس وصحبه على الأطلال، ألم يخبروك مرارًا أنه أولُ «من بكى واستبكى ووقف واستوقف»؟
أنصحك بقراءةِ كلاكيت1 للتخلّصِ من الغبار!
كلاكيت 6
لنقل إنك وجدتَ بلادًا جميلةً تمنحك أوراقًا تجعلك من أولادها -بالتبني- ولا يطالبك أحدٌ بمغادرتها أبدًا، وتملك فيها منزلًا تؤثثه كما تحب وتضع صور عائلتك فوق المدفأة، وعملًا تحبه يؤمّن لك حياةً كريمةً، ومتنزّهًا تمارس فيه رياضةِ المشي لتحافظ على لياقتك، وحين تخلو إلى عائلتك في جدرانك الأربعة تدهمك لهجتك التي لا يمكنك الانسلاخ منها، فهي كلونِ بشرتك أو مثل عضوٍ من أعضاء جسدك، أو كرائحةٍ تخز كل حواسك، وتذكرك أنك غريبٌ في بلادٍ منحتك كلَ شيءٍ، ولم تستطع أن تمحوَ حرفك القرمزي على الرغم من كلّ شيءٍ!
يمكنك بالتأكيد العودة إلى كلاكيت1 في أي وقت!
سؤال: هل تستطيع بعد كل هذا -وقبل كل هذا- أن تعرّف الوطن؟