وصف الإبداع بالجنون، هو من قبل الإشارة لدقة الشعرة التي تفصل الجنون عن العبقرية، إذ تصدمك بعض الإبداعات، والفرائد المذهلة، فتصفها تواضعاً: بالجنون، سواءً كان إبداع في إطار اللغة أو خارجه!
وإني أزعم أن مجنون ليلى لم يكن مجنون ليلاه فقط، بل كان مجنوناً بأشياء أخرى، على رأسها «فيلم» قام بتصويره وإخراجه ومونتاجه في قصيدته التي كان مطلعها
«رعاة الليل ما فعل الصباحُ
وما فعلت أوائله الملاحُ»
إذ يأخذك موج سياقهِ.. إلى عمق فاجعتهِ، وتسرقك تجربته، التي يشرحها لك بتتابع أحداثه، إلى أقصى حدود التعاطف معه.
قالوا له إن ليلى سوف ترحل غداً، إلى حيث لا تدري خرائط قلبك، فقال واصفاً رجع الصدى في فؤاده:
كأن القلب ليلة قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراحُ
قطاة غرها شرك فراجت
تجاذبهُ وقد علق الجناحُ
لها فرخان قد تركا بقفرٍ
وعشهما تصفقهُ الرياحُ
إذا هبت هبوب الريحِ هبا
وقالا أمّنا تأتِ الرواحُ
فلا في الليل نالت ما ترجي
ولا في الصبح جد لها مراحُ
وأما هذا المشهد السينمائي/الشعري الذي يجسد حالة القلب المفتوح/المفجوع بفراقه طبيبه / حبيبه، لا يتمالك المشاهد/القارئ نفسه.. إلا أن تذوب دهشة بهذا الإبداع، أو تتعلق إعجاباً باحترافية التصوير والإخراج، محترماً المنتج العبقري الذي أدخلك بسحرهِ «هوليوود» تجربته، ومقدراً قدرته على صناعة كل هذا الجنون!
وأمّا أوجه الشبه بين الحمامة والقلب فهو مبحث مستقل بذاته، ومجرد اختيارهِ لهذا التشبيه فهو فصل بحاشيته، فالقلب/الحمامة، غرهُ العشق/الشَرك، والنتيجة واحدة في كلا الحالتين: « علق الجناح، تركا الفرخان، والعش صفقته الرياح، الأمنيات بلا هدى، وسفن الرجاء بلا مدى».
فما أبلغ الشاعر/المصّور، العاشق/المنتج، المفارق/المخرج، الذي علم أن ليلاه في طوابير النازحين، فأشغل نهار السنين بما يخالج فؤاده، ذلك الفؤاد الذي كان آمناً بحبهِ.. معافى في وصلهِ.. يأتيه طيف حبيبه...، فأصبح مفارقاً تجتاح طوفانات حزنه بساتين أحلامهِ، وأضحى مودعاً.. يتمنى أن يودعهُ صفو الحياة وأنه لا يودع من أحب، ولكن تراءى له ضريح قلبه، فتختم مقطوعته بقوله:
«رعاة الليل كونوا كيف شئتم
فقد أودى بي الحب المتاحُ».