ذات مساء حينما كنت أقلّبُ «بالريموت كنترول» متنقلا بين قنوات الفضاء العربي فإذا بإعلان جذاب استرعت موسيقاهُ انتباهي، وخطف بصري يقول أحدهم فيه:
جسّ الطبيب خافقي..
وقال لي:
هلْ هُنا الألم؟
قلت له: نعم
فشقّ بالمشرطِ جيب مِعطفي..
وأخرجَ القلمْ..
هزّ الطّبيبُ رأسهُ مال وابتسم..
وقال لي:
ليس سوى قلم!
فقلت: لا يا سيّدي
هذا يدٌ.. وفم..
رصاصةٌ ودمْ..
وتهمة ساخرة تمشي بلا قدَم!
تلك الكلمات ذات الإيقاع السريع في الإعلان الذي لا تتجاوز مدته ثلاثين ثانية كانت لشدّة تأثيرها عليّ كأنها خرجت من التلفاز لتكون على هيئة رجل عربيّ ملثّم ومن ثمّ مضى واختفى فجأة من أمامي!
تساءلتُ من ذلك الرجل المجهول الذي كتب تلك الكلمات؟ سجلت تلك الكلمات على وُريقة حتى (أقوقلها) لاحقا كعادتي مع أي شيء أرغب معرفتهُ سريعًا. وبدأتُ رحلت البحث -افتراضيا- بدءاً من كتابة مقتطف من تلك الكلمات فإذا بسيلِ النتائج في محرّك البحث تتفقُ على أن اسمه: أحمد مطر..!
ويزداد الشغفُ لديّ ويكبر استفهام في الأفق من هو أحمد مطر؟ ربما لم يدر في خلد ذلك الابن الرابعِ الجميل (يوسف) -كما يُطلق عليه إخوته لجماله البهيّ- الذي قال في صباه صادحا بالحبّ والجمال:
مرقت كالسّهمِ لا تلْوي خُطاها
ليت شعري ما الذي اليوم دهاها
أن مصيره سيكون مهاجراً وعازفا تراجيديّا وساخرا على الأوتار السوداء للآلام العربية في العصرِ الحديث ذلك العزف الذي ترنمت به الشعوب العربية. وعلى النقيض تماما اعتبرته السلطات في العالم العربي ضجيجًا سمعيا بل وخانقاً مما أدّى إلى سكونه شيئا فشيئا حتى اختفى ذلك العزف؟!
في السبعينيات الميلادية انتقل من العراق إلى الكويت ليعمل محرّرًا ثقافيّا في صحيفةِ القبس وكتب لافتاتهِ ولوّح بها في السماءِ عاليًا ورآها الجميع وعرف الناس أن حامل لواءها اسمه: أحمد مطر.
كان توءم روحهِ ناجي العليّ يترجم ما كتبه أحمد على هيئةِ رسومات ساخرة وناقدة لاذعة للحكومات والسلطات العربية في ذات الصحيفة، وأصبحت كلمات أحمد ورسومات ناجي كأنها عملة ذهبيّة واحدة لا يصُحّ بها وجه دون آخر تُطالب بشيء اسمه: الحريّة! هاجرا معا إلى لندن بعد المضايقات والملاحقات وهناك كانت الفاجعة الكبرى التي زرعت أشواك البؤس والحزن في فؤاد أحمد مطر، في 29 أغسطس من عام 1987م رصاصةُ مسدس كاتم للصوت -مجهولة المصدر- استقرّت في رأسِ ناجي العلي لِيُطمس الوجهُ الآخر من العملة الذهبيّةِ.. رثاهُ أحمد مطر بقصيدة مخضبةٍ بالدموع كتبها على بحر (الألم) القاسي العميق عبّر عن ذلك الفقد الأمرّ بقصيدةٍ همزية طويلة أكثر من خمسين بيتا عنونها بِـ(ما أصعب الكلام) فجّر فيها كل ينابيع الحزن في ذاته.. جاء مطلعها ألم عميق مغلّف بشكرٍ للخطباء والشّعراء ولكل من ضاع وقته في التدبيج والإطراء:
شكرا على التّأبينِ والإطراء..
يا معْشرَ الخطباءِ والشّعراءِ..
شكراً على ما ضاع من أوقاتكم..
في غمرةِ التّدبيجِ والإطراء..
ويقول في موضع آخر:
«ناجيّ العليّ» لقد نجوت بقدرةٍ..
من عارنا، وعلوتَ للعلياءِ..
اِصعدْ،فموطِنُك السماء، وخلّنا..
في الأرضِ إنّ الأرض للجبناءِ..
وهنا يرى أن صاحبه قد نجا إلى السماء، وكأن الشكر في مطلع القصيدة موجه أيضا لربّ السماء على نجاة صاحبهِ من أرضِ الجبناء..!!
ويقول في موضعٍ آخر:
ماذا يضيرك أنْ تفارق أمّة..
ليست سوى خطأ من الأخطاء..
رملٌ تداخل بعضهُ في بعضهِ..
حتى غدا كالصّخرةِ الصمّاءِ..
لا الريحُ ترفعها إلى الأعلى..
ولا النيران تمنعها من الإغفاءِ..
إذْ لا ضير يا ناجي العلي في مفارقة أمة هي خطأ من الأخطاء لا ريح (الأحداث) ترفعها إلى أعلى ولا نيران (المصائب) تمنعها من الإغفاء، وهل يضيرُ الإنسان أصلا مُفارقة صخر أصمّ لا يجدي ولا ينفع؟!
والقصيدة طويلة تستحقّ الوقوف أمامها لما تحمله من إشارات ودلالات نارية وقوية تضيء الليل الحالك، والمقام هنا لا يتسع لي بأن أقف على تلك الهمزية الصادقة التي خرجت منه رغم أشواك الحزن في فؤاده..! سنحت لي الفرصة العظيمة في اقتناء أعمالهِ الكاملة من دار الالتزام اللبنانية في معرض الرياض الدولي للكتاب وفرحتُ بها علني أجد جوابا؛ لسرّ اختفائه.
مكثت ليلة لن أنساها طيلة حياتي في قراءتها، فور انتهائي منها احترتُ في مشاعري هل أضحك أم أبكي أم ماذا؟ هل أضحك على السخرية اللاذعةِ التي عزف بها، أم أبكي على تلك الآلام التي أصابته؟
أم على الحريّة في العالمِ العربيّ؟
غيابٌ واختفاءٌ غامِض وتولد في مخيلتي علامة استفهامٍ أخرى: لماذا لا يظهر في وسائل الإعلام ولماذا يتجاهلُ الإعلام يا تُرى من الذي أهمل الآخر؟ عزوف عن الإعلام العربيّ امتدّ لسنواتٍ طوال لم يجرِ أي مقابلةٍ سوى ثلاث مقابلات صحفية: مقابلة مع موقع الساخر، ومقابلة مع صحيفة العالم، ومقابلة صحفية مع الأستاذ أحمد المسعودي نُشرت في مجلّة الحدث في يوليو عام 98م، وله حديث آخر مقتضب لا يمكن اعتباره مقابلة كاملة أخذ من فيلم اسمه: (فنان صاحب رؤية) وعرض ذلك الحديث ضمن الجزء الثاني من الفيلم الوثائقي الذي أنتجته الجزيرة بعنوان/ من قتل ناجي العلي؟!
يقول أحمد مطر: «.. الأوزان والقوافي هي لعبتي منذ الصّبا لقد درت حول دوائر الخليل حتى دار رأسي وعكفت وأنا في المتوسطة، على إعطاء دروس في العروضِ لطلّاب الجامعة، إن هوسي بالأوزان جعلني أبتكر بحراً شعريّا جديداً، وهو البحر الذي كتبتُ بهِ قصيدة: ميلادِ الموت عام 1980م... الخ»
لكن المتأمل في لافتاتهِ غلب عليها النثرية ربما؛ لأنّ الإحساس العميق بالألم والقمع لا تكفيه أوزان الخليل مما أدى إلى خروجه (المتمرّد) و(الجميل) عن الإطار الموسيقي المعتاد، ويكفي إشادة الجواهري بها فنا ومضمونا وهو - العمودي الصارم-!
في شعره تجد: الوردة سيفا حارقا، والدمع حجراً جامداً، وقطرات الماء جمرات لاهبة، وأغلب الأشياء السّاخرةِ في هذه الحياة قرنها بصورة مُباشرة أو غيرِ مُباشرة بالحاكم العربيّ وكما أنه يُظهر الأشياء بعكسها في سخريةٍ لاذعة، ويبتكر في توظيف الألفاظ بجعلها في صور تُدهش القارئ، ويسدل الستار في ختام لافتاته على طريقته (المطريّة) المبدعة بختام رائع يطبع في ذاكرة القارئ ما لم يتوقعه من قبل. ولعناوينه دهشتها المبتكرة التي تشد الانتباه فقال بـ: (شيخوخة البكاء) و(الطبّ يضرّ بصحّتِك) و(طلبُ انتماء للعصر الحجريّ) و(مأساةِ أعواد الثقاب) و(نعم أنا إرهابي)!
عرفتُ لاحقًا سبب اختفائهِ عن وسائل الإعلام عندما قال إن: (غيابي عن المشهد الثقافي والإعلاميّ فلا يحتملُ غير تفسيرٍ واحدْ هو أنّني لا أؤمن بهذا المشهد) ويرى بأن وسائل الإعلام: إعدام..!
ولكن ثمة استفهاماً آخر يولد، تلك الرؤى كانت قبل قرابة عشر سنوات التي قال بها فالمشهدُ تغيّر في العالم العربيّ وأضحت حرية التعبير متاحة عبر الوسائط المختلفة كـ: تويتر وفيسبوك ويوتيوب.. الخ. وأضحى المواطن العربي فيه شيء من سخرية أحمد مطر ونقدهِ اللاّذع وسقطت عروش الاستبداد في بعض الدول.. هل تلك اللافتات آتت أُكلها؟ وهل حان وقتُ خفضها بعدما كانت تطاول عنان السماء؟ وأسئلة أخرى كثيرة لا يمكن أن يجيب عنها سوى شخص واحد هو: أحمد مطر.
وبدأتُ جادّا رحلتي الأخيرة للبحث عنه بعد رحلة بحث أولى -افتراضية-، ليجيب عن تلك الاستفهامات المعلقة في سماء عقلي استقصيتُ بالسؤال عن مقرّ إقامتهِ؛ فتواصلتُ مع الصحافي المصريّ حمدي قنديل -الذي قال بصوته أبيات أحمد مطر في ذلك الإعلان الجاذِب وكان سببا في معرفتي بأحمد مطر-
قلت له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فضلا أُريد أن أسألك حول أمرٍ ما؟
حمدي: تفضّل
- لو سمحت هل تعرف مقرّ إقامة أحمد مطر؟
- فتّشتُ عنهُ في لندن فلم أعثر عليه!
لكني لم أيأس سألت عددًا من المثقفين السؤال نفسه فكانت إجاباتهم:
لا أعلم، اذهب إلى السفارة العراقية حتى تجد مُبتغاك؛ لم أذهب للسفارة العراقية لعلمي المسبق بأنه حصل على الجنسية البريطانية ولموقفه من السلطات العراقية، وأحدهم يردّ ساخرًا: إذا قابلته سلم لي عليه، خاب أملي بعد تلك الإجابات.. كل ما أعرفه أنّهُ يقطن في لندن ولكن في أي ضاحيةٍ من ضواحيها؟ وكلي أملٌ أن أعيده إلى المشهد الثقافي العربي وتسجيل سيرته الأدبية للأجيال اللاحقة. عرفت بعد أشهر أنه يسكن في ضاحيةِ ويمبلي أقصى غربِ لندن يصارع المرض والغُربة مع أفرادِ عائلتهِ: على دكتوراه في المونتاج السينمائي، حسن ماجستير في السينما، زكي لا يزال طالبًا، وفاطمة طالبة في إحدى الجامعات البريطانيّة.
في ضحى يوم الخميس 1-10-1434هـ أول أيام عيد الفطر المبارك الموافق لـ 8-أغسطس-2013م أخذت القطار وحيدا دون أصحابي -على غير العادة- من برايتون جنوب إنجلترا إلى أقصى غرب لندن (ويمبلي) لمقابلة أحمد مطر، ذهبت متأنقا بملابس العيد آملا بأن يكون عيدي عيدين وأن أجد الوجه الآخر للعملة الذهبية النادرة بعد أن طمس إحدى أوجهها في زمن ماضٍ كان رسمها/ ناجي العليّ!
وصلت بحمد الله إلى ويمبلي ولأول مرة أزورها في حياتي أمشي وحيدا في ضاحية مليئة بالإثنيّاتِ العرقية كالهنود والعرب والفرسِ وغيرهم. أمضيت ساعات طوال أسأل العرب والعراقيين المقيمين هناك على وجه الخصوص -ومنهم من له أكثر من عشر سنواتٍ مقيما في تلك الضاحية- عن أحمد مطر كانت إجاباتهم/ لانعرفهُ لأول مرة نسمع عنه، لا ندري، اترك لنا رقم هاتفك وسنتصل بك إذا علمنا عنه أي معلومة، قال لي أحدهم: اِذهب إلى المسجد الكبير حيث العرب يصلون هناك والعراقيين على وجهٍِ أخص، ذهبت لذلك المسجد ولكني لم أجد أي أثرٍ لعراقي لم أجد مُبتغاي يأستُ ورجعت بخفّي حنين.. وبعد أيام من وصولي لبرايتون اتصلت على ذلك العراقي الذي قال: اُترك لنا رقم هاتفك.. سألته عن أحمد مطر فكانت إجابته: سألت عنه ولم أحصل على معلومةٍ واحدة..!
خاب أملي؛ لأنّي لم أعثر على ذلك الرجل الملثم بلثام الآلام والأحلام..!
ويبدو أن السبب الرئيس في عدم عثوري عليه هو أن العملة لا يكون لها قيمتها إلا بوجهين؟!!
* كلما حاولت الكتابة عن أحمد مطر، قفز الورق وتشكل كخارطة العالم العربي و... احترق!!