الفلاح صعلوكاً وملكاً .. تلك هي ترنيمة عاطف عبيد في قصته القصيرة «سيجارة لف» التي تجعل من صميدة الفلاح البسيط الذي لا يتجاوز ما يملكه من أرض مساحة ثلاثة قراريط من أضعف الأراضي، إلا أن ذكاء هذا الفلاح واعتزازه بانتمائه للأرض وتماهيه مع بيئته القروية تجعله يرى في نفسه ملكا بين غيرة من أبناء البلد.. فهو صميدة المتميز بين الفلاحين في صنعة الفلاحة وهو يمثل جيل المحترفين الذي أوشك على الرحيل في قرى مصر، فمقولة «الفلاحة كانت عال بوظوها العيال» تحمل في طياتها اعتزازا بإرث أفسده أنصاف الفلاحين من أبناء القرية.
الفلاحة عند صميدة لا تعني مجموعة المهارات التي يستزرع بها المواطن أرضه.. بل هي انتماء ومعايشة ورؤية وطن.. ومن هنا ومن واقع هذا الانتماء للأرض / الوطن كان رفض صميدة دخول التكنولوجيا في الزراعة.. فهذا تعد على حقه في علاقته مع أرضه، فرابطة الأرض هي المحدد الأول لانتماء صميدة ودخول الأغيار من (الماكينات الحديثة) سوف يخرب تلك العلاقة، وهذا مما يثير العجب (كيف أدرك صميدة هذا الترابط؟) حيث ترى نظرية الحتم التكنولوجي لمارشال ماكلوهان Technological Determinism أن الأنظمة الاجتماعية والثقافية تتغير بتغير الأدوات التكنولوجية، فكما تغيرت أوروبا بعد الثورة الصناعية وانتقل المجتمع من حالة الزراعة إلى لحظة التصنيع يرى صميدة بحدس الفلاح وولع المحب أن تلك الآلات ستفصم أواصر العلاقة بين الأرض / الوطن من جهة وبين الفلاح / العاشق من جهة أخرى، صميدة الفلاح «الذي لم يمنعه فقره» من أن يجلس مع أبناء القرية ويحاورهم رأساً برأس بل ويجعل مما يملكه يفوق بمرات عديدة ما يمتلكه غيرة من أثرياء القرية.
صميدة الفلاح النبيل الذي يرى ثروته وتاريخه وذاكرته في مهنته وفي قراريطه الثلاثة (الضعيفة الخصوبة)، هو سر من أسرار القرية الذي يجمع كثيراً من المتناقضات فهو من الفقراء ويجالس الأغنياء، وهو من المعدمين ويتصارع عليه تجار المحصول لأنه «ماركة» معتمدة وموثوق بها في القرية فإن رضي عن أحد التجار فقد أضحت القرية زبائن لهذا التاجر أو ذاك، أما العمدة فهو الداعم الأكبر لصميدة ولا غرو فصميدة يعيد إحياء تراث أجداده من آلاف السنين، فهو الفلاح الفصيح في حضرة النبيل / الفرعون / الحاكم، وهو من يحظى برضا الفرعون على الرغم من فقرة وضعفه وهو الماهر المدافع والمفاخر بما يملك وإن قل. إن الذاكرة التاريخية والثقافية تعمل في عقلية وشخصية صميدة فعلى مستوى اللاوعي تصبح كلمات صميدة وتصرفاته صدى وترديداً لعادات أجداده الفلاحين من أبناء مصر فهم بناة الحضارة على فقرهم وهم أبناء الدولة على التفاتها عنهم.
إن ثنائية الفلاح صعلوكاً وملكاً هي شفرة هذا العمل، وإن استطعنا الكشف عن غوامضها وفتح ما استغلق منها، أصبح واجباً علينا أن نعيد قراءة العلاقة بين الفلاح والأرض / الوطن والعلاقة بين الفلاح والسلطة / العمدة / الفرعون والفلاح والمجتمع / القوى الاجتماعية الأخرى / أدوات الإنتاج / التعددية الطبقية ، ويقدم عاطف عبيد صورة جديدة للفلاح المصري - مغايرة لما قاله الرحالة الأجانب عن مصر حيث «وصفوا الفلاح المصري بأنه يعيش من الطين وعلى الطين وفي الطين» جمال حمدان ج 2 ص 229، حيث تتجلى صورة الفلاح ملكاً في رؤية صميدة لما يملكه على الرغم من ضآلته وبساطته، فالبقرة النحيلة تصبح معه أفضل أبقار القرية وقمح أرضه يصير أجود أنواع القمح.. حتى مع ظهور فئة الأفندية والمتعلمين يرى صميدة انه أفضل من هؤلاء جميعا.. حيث يتباهى بختمه النحاسي ويرى أن محددات هويته هو ارتباطه بالأرض التي كلما تعلق بها.. ارتفعت مكانته.. وأستطيع أن أرى في شخصية صميدة كما رسمها المؤلف باقتدار رفضا خفيا لمشروع الحداثة الذي ينبني على رفض الموروث والسخرية من القديم بل وصناعة الحاجة.. فصميدة يمتلك من الرضا ما يجعله أميرا بين الفلاحين حتى انه أصبح علامة مميزة لمن يريد رواج اسمه في القرية فهذا تاجر القمح لا يستنكف عن دفع جنيهات قليلة لكي يحظى بقبول صميدة أن يبيع محصوله له.. فهو خير دعاية للتاجر الذي قبل صميدة أن يبيع له، كما أن صميدة يعتز بشخصية الفلاح داخله ويجعلها سلطة تتميز على أصحاب الدرجات العلمية فيهزأ من الأفندية ومن قارئي الأهرام على نواصي المقاهي، فقوته تكمن في قديمه وفي تاريخه وفي ذاكرته السوسيوثقافية التي تعمل على مستوى اللاوعي، فترفض بذكاء شديد مقدمات التحديث التي تنزع عن صميدة مكامن قوته وهي التقائه بالأرض وتعامله معها فمنها يستمد قوته وفيها يرى طموحه وأحلامه وبها يتحقق مشروعة وتكتمل ذاته.
القصة مليئة بالرموز والتيمات التي لا تنتهي.. من رفض الحداثة إلى التماهي مع الأرض / الوطن ومن رؤية الفلاح للكون إلى تجاوز الكون لمفهوم الفلاح وتمثلاته التي تتعدد وتتداخل بحسب ما نستلهمه منها.