القراءة الإنتاجية تحتاج إلى تراتبية في الاطلاع، لأن المعرفة تراكمية وجدلية فهي لا تنفك البتة عن تأصيلاتها التاريخية باعتبارها وحدة ساهمت في تكوين الوحدات التأسيسية للعلم والمعرفة، فعندما نأمل استيعاب علم أو فن من العلوم والفنون فنحن مجبرون-معرفيا- أن نستلهم تاريخه مما يجعل دورة الزمن عامل مُجهد في استيعاب المعارف لأننا في هذا الزمن - على سبيل المثال- نعود إلى قرون سابقة لاستحضار خارطة علم من العلوم، والأجيال التي ستعقبنا بقرون ستتسع عليهم دائرة الاستيعاب العلمي لحتمية خضوعهم لتأريخ العلوم. وحتى تكون القراءة إنتاجية فهي أسيرة لاستحضار تأريخ الفن الذي نقرأه و نود أن تكون قراءتنا له منتجة.
كما أن القراءة الإنتاجية هي حليفة لنوعية الكتاب و النص المقروء، فكثير من الكتب تفقد جزءًا كبيرًا من قيمتها خلال العام الواحد وذلك للاتساع المعرفي والعلمي والتطور الفكري على الصعيد العالمي، مما يحتم على القارئ المنتج أن يكون ذوّاقًا في اختيار الكتاب المقروء حتى يستطيع مواكبة هذا الكم المعرفي العالمي الهائل وبالتالي يضمن عدم فقدان بوصلة قراءته فيخوض تجارب قرائية أشبه ما تكون بالفاشلة خصوصًا مع الضيق الزمني المعاصر، وبهذا يتعهد بقراءة إنتاجية مناسبة.
إن المنطقة الأكثر حساسية في خارطة القراءة المنتجة هي التي تعقب القراءة مباشرة ؛ وهي التي تعيد ترتيب وتوزيع وتدوير وتفكيك وتمييز الأفكار المبثوثة تباعًا في النص المقروء لذا فإنها مرحلة أخيرة لكنها هي الأولى في الاهتمام المعرفي لإنشاء القراءة الإنتاجية ؛ ونستطيع بكل وضوح أن نكون أكثر اتقانًا لهذه المرحلة بالتفكير فيما قرأناه في مرحلتنا السابقة أثناء قراءة النص، فالتفكير في أفكار الكتاب المقروء برمته تعيد تلقينا للنص مرات ومرات عبر إنتاجية حديثة للنص، فإذا كنا نقرأ ساعةً فلا أقل من أنفكر ساعة مماثلة فيما قرأناه حتى يكون التفاعل مع النص ليس حصرًا على الهذّ فحسب بل تعقبه عملية تفاعلية تكمن في إعمال العقل في النص لينتج لنا قراءة إنتاجية وليدة.
إن القراءة ليست معلومات تُكتسب بل هي تكوين وإدارة للعقل ؛ ولا يمكن أن تؤتي ثمراتها حتى تكون في علاقة حميمية مع العقل ليتسنى لهما إنتاج سلوكي وثقافي وفكري على أصعدة الفنون والأفكار والثقافات، بل إن النص/الكتاب يفقد حيويته وتجدده حينما تقف العلاقة به عند إخراجه من الورق إلى الأسماع عبر الشفاه.
عند هذا الحد مما كتبتُ حول القراءة الإنتاجية نلحظ أنها تنبني على طرفي القراءة (المؤلف و القارئ) فكلاهما عامل رئيس في تحوير القراءة إلى إنتاج وإلى قراءة جديدة تزيد من نضج الكتابة العلمية والفكرية في المشهد الثقافي السعودي على وجه الخصوص والعالمي بعموم، وبعد هذا نستطيع بكل قوة أن نرى في معارض الكتب نتاجًا سعوديًا فكريًا عميقًا يصل إلى كونه مرجعًا للثقافة العربية بكليتها.