تربّعتْ أمي على أرض الحوش مفترشة بساطاً من نايلون، وأسندتْ ظهرها إلى الجدار الإسمنتي الساخن المتأثر بلسعات الشمس.. تتفلّت بضع شعيرات من تحت ملفعها بسبب هواء المروحة الأرضية الجاثية يسارها، وعلى يمينها الجارة العجوز ذات الأقدام المتشققة والأسئلة الكثيرة.. كان لزاماً عليَّ أن أبقى لأقوم بواجب الضيافة من قهوة وتمر.. يقترب المساء، ويحاول البدر المكتمل أن يبدد الظلام.. أقلّب صفحات المجلّة بينما أمي والجارة العجوز تتبادلان مستجدات القرية، وما يتوقعن حدوثه والحلول المفترضة في قضايا أشخاص أعرف بعضهم وأجهل البعض.. حركة أيديهما عند الحديث لا تستكين.. يزيّن الكفوفَ الحنّاء الذي طالما تشاجرتُ مع أمي بشأنه؛ ففي رأيها يجدر بنا أن نتزيّن بالحناء دائماً ونميّز به أكفنا عن الرجال.
انقطع الحديث للحظات حتى جاءت التفاتة خاطفة من الجارة إلى ما في يدي. وأخذتْ جاهدة تحاول تكهن ما على الغلاف، ثم استسلمت لخيانة بصرها. سألتني ما هذا الشيء يا بنيتي؟! قلت لنفسي: هل أجيب باقتضاب أم بالتفصيل؟، هل أقول لها: إنها مغنية مشهورة اسمها ليلى ستتزوج من حبيبها؟. حسمتُ أمري وقلت: هي امرأة ستتزوج من تحب.
أخذت العجوز المجلة وطفقت تتأملها؛ ثم قالت: أفسدتْ وجهها بالمكياج.. انظري (وتمدّها لأمي). وبدورها أمي تساءلتْ كيف عرفتْ هذا الرجل؟ (سؤال أمي لم يكن لي، بل كان لشيء في نفسها). تركتْ المجلة جانباً وقالت: أليس من الأفضل لو أن منيرة بنت راشد تزوجت بناصر؟ أتذكرين جلساتهم التي لا تنتهي بين النخيل وعند حصاد البرسيم؟ كان يساعدها بوضع الحزمة الثقيلة على رأسها لتحملها للبقر.
كانت ترقق له غطاء وجهها ولا أعتقد أنها بخلت عليه برؤيته. يقولون: إنه كان يبكي كي تعطف عليه أمه لتخطبها له. هل صغر سنه أمر معيب؟ لقد كان يحبها بجنون رغم أنها تكبره بسنوات!.
فرقعتْ الجارة بإصبعيها الأوسط والإبهام، ولوَّحت بيدها إشارة إلى أنه زمن انقضى ولن يعود. وفجأة: تتابعت طرقات قوية على باب المنزل، جعلتني أهرول لفتحه. يجيء صوت أمي من خلفي: انتبهي أن يرى وجهك! أقف بغضب ونفاذ صبر.. وأرد عليها: وإن افترضنا أنه رآني، ألا ترين حجابي على رأسي.. نهرتني: اسكتي يا بنت، من يلجم ألسنة الناس عنّا؟. بحزن أجيب: وهل يغيّر لون الفنجال مذاق القهوة يا أمّاه؟!