حين قال تعالى مخاطبًا الملائكة:»وعلّم آدمَ الأسماءَ كلها ثم عرضهم على الملائكةِ وقال أنبئوني بأسماءِ هؤلاءِ إن كنتم صادقين» البقرة-31، أصبحتِ الأسماءُ مرادفًا للمعرفةِ بصورةٍ ما حتى مع اختلاف المفسرين وتعدّدِ آرائهم حول القصد من الأسماء إن كانت أسماءَ الأشياءِ في الكونِ، أو أسماءَ البشرِ من بني آدمَ كما قال ابنُ عبّاس. وربما يمكننا القولُ بأنّ الشغفَ بالأسماءِ توقٌ نحو استكشاف المجهولِ الذي قد يكون الحقيقةُ يومًا ما.
وما دام الأمرُ كذلك فليس بغريبٍ إذن أن «تكونَ الوردةُ اسمًا، ونحن لا نملك إلا الأسماء»، بهذه العبارة ختم أمبرتو إيكو روايتَه الضخمة اسم الوردة – ترجمة أحمد الصمعي/ دار الكتاب الجديد ، بيروت 2013- التي تلتقي مع رواية أورهان باموق «اسمي أحمر» في اختيار الاسمِ ليكون عنوانًا لها ومفتتحًا وعتبةً أولى يقف عليها القارئُ مثلما وقف أوديبُ على أعتابِ طيبة، وليست تلك نقطةَ الالتقاءِ الوحيدةِ بين العملين، إذ يمكن وصفُ حبكيتهما بالبوليسيةِ حين يحضر القتلُ بقوةٍ فيهما، القتلُ بدافعِ حماية المعرفةِ/ الاسمِ/ الحقيقة!
تبدأ كلتا الروايتين بجريمةِ قتلٍ غريبةٍ لا يُستدعى للتحقيقِ فيها رجل شرطةٍ، بل يكلّف أحدُ أبناءِ المهنةِ – إن صحّ الوصف- بذلك، فالمحققُ في اسم الوردة هو الراهبُ «غوليالمو» الذي يكلّفه رئيسُ الديرِ بالتحقيقِ في موتِ عددٍ من الرهبانِ في ظروفٍ غامضةٍ، وهو «قرة» في اسمي أحمر الذي يكلّفه السلطان بمعرفةِ قاتلِ النقّاش «ظريف أفندي»، وكما أن المحققَ هو ابنُ المهنةِ فالقاتل هو ابنُها أيضًا في كلتا الروايتين، فهو راهبٌ أعمى في عمل إيكو وهو نقّاشٌ في رواية باموق.
حين سرقَ بروميثيوس قبسَ النار عاقبه زيوس بتقييده بالسلاسل إلى صخرةٍ كبيرةٍ، وسلّط عليه نسرًا يلتهم كبده كل نهارٍ وينمو ثانية في الليل ليكون عذابَه سرمديًا لم ينتهِ إلا حين خلّصه هرقل. وهذا تقريبًا ما حدث في كلتا الروايتين، فالراهب يورج الأعمى قتل كل الرهبانِ الذين وصلوا إلى قاعة «أقصى أفريقيا» في المكتبة / المتاهة، تلك القاعة التي تضمُّ بين مقتنياتها كتابَ أرسطو « صناعة فن الشعر» الذي يتحدث فيه عن الملهاة منطلقًا من إيمانه بأنها مجردُ حماقاتٍ لا يجوز للرهبان أن يطّلعوا عليها كي لا تلهيهم عن مهمتهم الأساسيةِ في حفظ النصوصِ المقدسةِ وشرحها؛ الحفظ لا البحث لأن من «خاصيّات المعرفة أنها كانت كاملة ومعرّفة منذ البداية»! بالتوازي نجد النقّاش «زيتون» يقتل زميله لأنه كان يعمل على رسم صورةٍ للسلطان على طريقةِ الغرب الكافر (الرسم بالمنظور) ونصّب نفسه حاميًا للمدرسة القديمة التي لا يتطابق فيها المرسوم مع الواقع كي لا يقع النقّاش في شَركِ تحدي القدرةِ الإلهية، الأمر الذي يجعل المعرفةَ في كلا العملين مقصورةً على التقليدِ وكل محاولةٍ للبحثِ و التجديدِ هي محاولةٌ لهدم صرحِ المعرفة القائمِ منذ الأزل.
من هذا المنطلقِ يبدو يورج الأعمى والنقاش زيتون شخصيتين مقابلتين للإله زيوس، وكلُ من يحاول الحصول على نار المعرفِة هو مقابلٌ موضوعيٌ لبروميثيوس، والعقوبةُ هي القتلُ الذي يتجدّد لكلِ من يحاول إعادةِ «سرقة» القبس المتوهّج، إلى حينِ ظهور هرقل المعادلِ لغوليالمو وقرة لكشف الحقيقة ووضع حدٍّ لعذاباتِ المعرفة ومريديها.
يحضر العمى علامةً ودلالةً وبرغم انطفاءِ نور العينين إلا أنه يعني نورًا آخر يتجسّد فيه الحكمةُ والإتقان واكتمالِ المعرفة، فالراهب يورج وصل إلى العمى لكثرة اطّلاعه والنقّاش المتقن المُجيد هو الذي يتمكّن من الرسم بمهارة بعد أن يفقد بصرَه الأمر الذي يجعل بعضَهم يسمل عينيه عامدًا ليبلغَ تلك المرتبة، ولعلّ العمى بهذه الصورة يصبح كما وصفه بورخيس بأنه هبة، وتصير اليدان مبصرةً أكثر من العينين على حد تعبير يورج!
قد يمضي الاسم/ المعرفة/ الحقيقة ناعمًا مثل وردةٍ وقد يتضرّج بالأحمر، وما بينهما أفق يمتد!