نأتي الآن إلى المعاني المتأنية الأكثر عمقًا لمصطلح «الفلسفة»، بعد أن مررنا في المقالة السابقة على التعريف اللفظي الاشتقاقي السريع.
ظهر لي بعد طول بحث وتأمل أن الفلسفة عصيّة جدًا على التعريف الدقيق الواضح المتفق عليه، وأن جمال التفلسف وقيمته يكمنان في ذلك؛ أي في غموض تعريفاته وتداخلها، بل وتصادمها وتنافرها وتباعدها عن بعضها أحيانًا. وهذا ليس اكتشافا عظيمًا مني، بل هي إشكالية معروفة عند الباحثين في التعريفات والمصطلحات منذ القدم، فالصعوبات التي يعانيها الباحثون عن التعريفات الدقيقة في مختلف الفنون والعلوم والمجالات تهون وتهون ثم تهون مائة مرة ومرة أمام الصعوبات التي يعانيها الباحث عن تعريف جلي المعنى قاطع الدلالة لكلمة «فلسفة».
ولذلك نستطيع أن نقول: للفلسفة مفهوم خاص بكل فيلسوف؛ أو عند كل متفلسف، باختلاف العوامل والظروف والتنشئة الاجتماعية والمرجعيات والمرتكزات والموروثات والتأثرات والقناعات والخلفيات والأطوار والأزمان والقيود والأجواء الثقافية المحيطة به... الخ. وقد لا نبالغ أيضًا إذا قلنا بناء على ما سبق: عدد تعريفات الفلسفة مُساوٍ لعدد الفلاسفة.!
حاولتُ أن أتفلسف في تعريف الفلسفة، فوضعتُ عددًا كبيرا من تعريفاتها التي أعجبتني في خلاطتي العقلية الخاصة.. مزجتُ بينها وحذفتُ منها وأضفتُ عليها ورتبتها وفعلت بها الأفاعيل، فخرجتُ بنتائج، أوردها لكم في النقاط التالية، معتقدًا أنها قادرة على عكس الصورة بوضوح مبسط، وآملا أن تكون ميسرة مفيدة للمهتمين وخاصة المبتدئين منهم، وتاركًا المجال لمن يريد النقاش حولها:
1- عندما يقرأ عامة الناس أو يسمعون كلمة «فيلسوف» تتبادر إلى أذهان كثير منهم صورة ذلك الإنسان الغارق في التأمل والخيالات والهدوء والتفكير العميق.. أو صورة إنسان بارد متفائل بلا حدود، لا يكترث لشيء أبدًا، ولا يعرف القلق ولا الهم ولا الغم. تتبادر الصورتان وغيرهما من الصور المشابهة، وقد تكون الصورة الأولى صحيحة في كثير من الأحيان؛ ولكن المؤكد هو أن الفيلسوف على عكس الصورة الثانية غالبًا، فهو أكثر الناس قلقًا وتعبًا رغم استمتاعه البالغ بعمل عقله؛ لأنه يحمل همًا كبيرًا، كيف لا وهو المشغول بالتأمل الواسع للاستفهامات العظيمة الحائرة، والبحث المركّز عن الإجابات السليمة الدقيقة الغائرة الثائرة لمشاكل الكون والحياة والبشر، خاصة البارزة الرئيسية الأكثر عمومية منها.. ولكن قلقه خفي عن الناس؛ لأنه تجاوز الاهتمام بالصغائر والأوهام والتفاهات والغباوات والحماقات، التي اعتاد كثير من الناس على سرعة التأثر بها، والانجرار معها، والانجراف في أوديتها ومهاويها السحيقة.
2- الفلسفة: هي التأمل العميق المترابط الشامل في أصول الأشياء وغاياتها وماهيَّاتها وجواهرها وعللها وتعليلاتها، بهدوء تام واستمتاع ذهني طويل النفس، بغية الوصول إلى حلول جادة رصينة رزينة متينة للمشكلات الإنسانية عامة؛ والكبرى منها على وجه الخصوص، في مختلف المجالات..
3- الفلسفة: هي تشغيل العقل بكل قواه، من زاوية عامة كلية لا خاصة ولا جزئية، لفك ألغاز الوجود والحياة والإنسان، أو لحل ما يراه الفيلسوف مشكلات، أو للإجابة عمّا يراه أسئلة كبرى لم يقتنع هو بإجابات غيره حولها.
4- الفلسفة: هي سبر أغوار المتواريات عن الأنظار، والتأمل العميق في ما خلف الكواليس الظاهرة، وإعمال الذهن بصدق في الوجود بكل ما فيه، رغبة في المعرفة والحكمة، وطلبًا لتكوين نظرة كلية للحياة؛ قادرة على المساهمة في إسعاد بني الإنسان.
5- الفلسفة: هي البحث في الكليات، والتفكير الصادق البعيد الجريء العميق الحر في ما وراء الواقع والظاهر والجزئي والقريب. وهذا لا يعني أنها لا تهتم بالوقائع والجزئيات والمعطيات القريبة، بل تهتم بها قليلا أو كثيرا باختلاف الأحوال والقضايا؛ ولكن دون أن تطيل الوقوف عندها، بل سرعان ما تتجاوزها إلى ما خلفها وما بعدها من العموميات والشموليات والكليات والعلل البعيدة المختبئة المستترة.
6- الفلسفة: هي إيحاءات من الكون والذات، تشعل في عقل الفيلسوف أضواء الاجتهاد والحماس في تذليل الصعاب التي تحول بين الإنسان وراحته وسعادته واستقراره، عن طريق التفكّر الزائد في كل ما يحيط به بنظرة شمولية... إنها التساؤلات العميقة والمحاولات الجادة في تحديد الأسئلة الضخمة التي تؤرق هذا الكائن المسحوق بين السماء والأرض منذ الأزل، وبذل الجهود الحثيثة للإجابة عنها.
7- الفلسفة باختصار: هي علم السعادة في الحياة والعمل لتحقيقها، كما يقول ديوجانس. وهي كما عرَّفها أرسطو: «العلم العام وفيه تعرّف موضوعات العلوم كلها فهي معرفة الكائنات وأسبابها ومبادئها الجوهرية وعلتها الأولى». وهي ليست علمًا في نظر الكثيرين ومنهم موريتس شليك، الذي عدَّها نشاطًا أو فعالية في كل علم. أما أفلاطون فيرى للفلسفة شرف الرئاسة على جميع العلوم؛ وهي عنده: «البحث عن حقائق الموجودات ونظامها الجميل لمعرفة المبدع الأول». وهي بحسب ديكارت: «العلم العام لجميع العلوم، وهي معرفة العناصر الأساسية من كل علم، وهي معرفة الكائن الجدير بالكينونة». وعند هوسرل: «هي البحث في أسئلة لم يجب عنها العلم». وتعريفها عند سقراط باقتضاب: «البحث العقليّ عن حقائق الأشياء المؤدّي إلى الخير».
8- الفلسفة باختصار عند العرب الأوائل: هي عند الكندي: علم الحق الأول الذي هو علّة كل حق. وهي عنده في موضع آخر (علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان)، وقال في موضع ثالث (هي علم الأشياء بحقائقها، وهذه الحقائق كلية، لأن الفلسفة لا تطلب معرفة الجزئيات، إذ إن الجزئيات غير متناهية, واللامتناهي لا يحيط به العلم، وللفلسفة شرف على جميع العلوم الإنسانية، ولكن الشرف الأعلى بين علوم الفلسفة للفلسفة الأولى). وهي عند الفارابي (العلم بالموجودات بما هي موجودة) وهي عنده أيضًا (علم بمقدار الطاقة الإنسية) وأعجبني جدًا قوله عنها أيضًا (العلم الوحيد الجامع الذي يضع أمامنا صورة شاملة للكون). وهي عند ابن رشد «فعل الفلسفة» أي التفلسف في فهمي؛ وفعل الفلسفة عنده ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع. وبحسب ابن سينا هي (محبة الحكمة) والحكمة عنده هي (استكمال النفس الإنسانية بتصوّر الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعلمية على قدر الطاقة الإنسانية).
وبذلك يكون الفيلسوف بإيجاز شديد: الإنسان الذي يبحث في ماهية الأشياء وأصولها وغاياتها وعللها وعلاقة بعضها ببعض، بهدف تكوين نظرة عامة شمولية يستطيع من خلالها الإدلاء بدلوه في حل المشكلات الكونية والإنسانية العويصة والإجابة عن التساؤلات المؤرقة للبشر، وخاصة الكبرى.
ويرى البعض الفلسفة فنًا، وتعدها فئة علمًا، ويذهب الكثيرون إلى أنها نشاط، ويراها آخرون خليطًا بين العلم والفن؛ والحديث في هذا يطول.
نتوقف هنا، ونتحدث في الجزء القادم من هذه السلسلة عن فوائد الفلسفة ودوافع التفلسف، إن كان في العمر بقية..