قديمًا قالوا: (فلان عِلْمه من قراطيس)، مفضِّلين مَن يتلقَّى العِلْم عن شيوخ، ثاني الرُّكَب، وربما أصبح بعدئذ: (ثانيَ عِطْفِه)! أي أنه لا يعتمد على عقله وقراءاته. معنى ذلك أن (عباس محمود العقّاد)، مثلًا، في منطق هؤلاء، ليس بشيءٍ يُذكر؛ لأنه ليس مدرسيًّا، متلقِّـيًا عن شيوخ وأساتيذ، وعن أسانيد معنعنة.
هذا القول كان يهدف- في قِسْطٍ منه- إلى التدجين. ذلك أن العِلْم كان مرتبطًا بالدِّين بصفة جوهريَّة. وكان يُستحسن لذلك أن يظلّ العالِم فردًا من قطيع. أمّا أن يكون حُرًّا، طليقًا، مستقلَّ الفكر، فتلك قاصمة الظهر السياسي والاجتماعي. وبالطبع كانت في الأمر بقيَّة علاقة بالآليَّة المعرفيَّة المعتمِدة على التلقِّي الشفاهي، الذي يحتفل بالذاكرة، والحفظ، والرواية، والترديد، لا بالقراءة والكتاب والتأمّل. إلّا أن هذا العامل يتظافر مع العامل المشار إليه قبله.
هذه الثقافة تؤدِّي، من جهةٍ أخرى، إلى ضربٍ من العِلْم الظاهري، غير أنه لا يعدو الترديد لجزئيَّات، دون قراءة النصوص ولا الوعي بسياقاتها. أضرب هنا مثالًا توضيحيًّا واحدًا على هذا النسق الثقافي وما يتمخّض عنه من مغالطات:
كثيرًا ما ظلّ يردَّد على أسماعنا منذ الطفولة- بهدف دفن النساء في البيوت، والحيلولة دون حراكهن الطبيعي لطلب العلم، والعمل، والعيش، بوصفهن عناصر فاعلة في المجتمع إلى جانب الرجل، وذلك في فَرْزٍ عنصريٍّ لا علاقة له بالإسلام- الاستشهاد بالقول: (وقَرْنَ في بُيوتِكُنّ)! هكذا اقتطافًا، دون النصّ كاملًا والسِّياق. وكأن هذا هو منطق الإسلام، ومنطلقه في النظر إلى المرأة، وتحديد وظيفتها في الحياة، أن تُربط في البيت كالدابَّة، التي لا تخرج، فهي قارَّة، قاعدة، مُقْعَدة، عالة على ما يُنعم به عليها الرجل! وفي هذا ما فيه من مصادرة العقل، والتاريخ، والواقع، والإنسان. وقبل ذلك فيه الافتئات على النصّ القرآني بتمامه، بل فيه التشويه للإسلام، عدالةً، وعقلانيَّةً، وحضارة. وهي منهجيَّة بائنة الإغراض من أجل حمل القرآن على الشهادة لبعض الأقوام من ذوي العاهات الاجتماعيّة. وإنما مَثَل الاستشهاد هنالك كمن يستشهد لائتفاك ترك الصلاة، عابثًا، بقوله تعالى:(ولا تقربوا الصلاة)!
إن الآيات لو سيقت، دون اجتزاء يردِّده المردِّدون المدرسيُّون ببغائيًّا، لوَضَحَ القصد، ولاتلأبَّت السبيل، ولما خدمتْ استشهاهم الاجتماعي الدارج، ولسَقَطَ التقوِّي بها لحبس المرأة في بيتها كالبهيمة، في نوعٍ من الوأد الإسلامي. إذن لبان أن:
1- الخطاب (لنساء النبي) خاصَّة.
2- الآيتين، الوارد فيهما الخطاب، صُدِّرتا بتأكيد أن نساء النبي: (لسنَ كأحدٍ من النساء).
3- القرار في البيوت المأمور به ليس على إطلاقه، وإنما هو قرار إنْ اتَّقت نساء النبي من الخروج تُقاةً من تعرُّضٍ لهن بسوء من ذوي القلوب المريضة.
4- الأمر بالقرار في البيوت ليس على إطلاقه، وإنما هو عن التبرّج.
5- التبرّج المنهيّ عنه ليس على إطلاقه، بل عن: (تبرّج الجاهليّة).
6- الجاهليّة ليست على إطلاقها، ولكنما هي: (الجاهليّة الأولى).
7- الغاية من ذلك كلّه هو: لإذهاب الرجس عن أهل بيت النبي وتطهيرهم تطهيرًا.
وهو إحكامٌ نصِّيٌّ لا مناص لمتلاعبٍ به إلا أن يعمد إلى اقتطاع الكلمتين، المراد توظيفهما، عن سياقهما القرآني، كي يتسنّى له استغفال السامعين، إنْ أمكنه ذلك، وأَسْلَمَة ما في نفسه من التواءٍ نفسي أو انحرافٍ اجتماعي. وذلك ما يفعله هؤلاء لتحقيق المطلوب إثباته، من: كَبْت معارِضات العقل والنقل والواقع لتعسّفاتهم! {يا نِسَاءَ النَّبِيِّ، لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ، إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ؛ فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ، وقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا. وقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ؛ ولا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى، وأَقِمْنَ الصَّلاةَ، وآتِينَ الزَّكَاةَ، وأَطِعْنَ اللهَ ورَسُولَهُ، إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}.
لماذا لا يُستشهد عادةً بالآيات كاملة هنا؟!
لا لأن الثقافة شفاهيَّة، ترديديَّة، اجتزائيَّة، اجتراريّة، فحسب، ولكن، إلى ذلك، لأنها منهجيَّة قرائيَّة خادمة لأهداف لا يخدمها النصُّ الكامل. تلك قراءات استشهاديّة تتعامَى جهلًا أو قصدًا لغايات أخرى في نفوسها. وهي فوق إهمال قراءة النصوص في سياقاتها المكتوبة، تُهمل- من باب أًولى- السياق الزماني والمكاني، بل تُهمل السِّيرة النبويَّة، وغيرها من السِّيَر والتواريخ الدالَّة على أن فقههم- ذاك (القارّ)- لا محلَّ له من الإسلام؛ فلم يفقهه لا رسول الله، ولا أزواجه، ولا خلفاؤه، الراشدون أو غير الراشدين؛ لأن المرأة لم تقرَّ في بيتها قطّ، وَفق ذلك الفهم الخاصّ المبتكر، بل كانت تخرج إلى المساجد، والأسواق، وتغشَى مجالس العلم، وتُسافر، وتُشارك في الحياة العامَّة، وتعمل أحيانًا مسؤولةً في الحسبة، موكلة إليها مراقبة الأسواق، كما في عهد (عمر بن الخطّاب). وكذا تُشارِك في الحروب، والتطبيب. بل كانت ناشطة سياسيّة، وربما قادت الجيوش من أقصى الأرض إلى أقصاها. والأمثلة التاريخيَّة في هذا في غنية عن السرد هاهنا.
وأكثر ممّا تقدّم، فإن القراءة بـ(قَرْنَ) مرجوحة لغةً وقراءةً، لدى بعض علماء القرآن، بقراءةٍ أخرى، هي: (قِرْنَ)، من الوقار. قال (الطبري)(1): (قرأتْه عامّة قَرَأَة المدينة وبعض الكوفيين: (وَقَرْنَ)، بفتح القاف، بمعنى: واقْرَرْنَ في بُيوتكن... وقرأ ذلك عامّة قَرَأَة الكوفة والبصرة: (وَقِرْنَ)، بكسر القاف، بمعنى: كُنَّ أهل وقار وسكينة (في بيوتكن). وهذه القراءة، وهي الكسر في القاف، أَولَى عندنا بالصواب؛ لأن ذلك إن كان من الوقار على ما اخترنا، فلا شك أن القراءة بكسر القاف؛ لأنه يقال: وَقَرَ فلان في منزله؛ فهو يَقِر وُقُورًا، فتُكسر القاف في تَفْعِل، فإذا أُمِر منه قيل: قِرْ، كما يقال من وَزَنَ يَزِن: زِنْ، ومن وَعَدَ يَعِد: عِدْ. وإنْ كان من القَرار، فإن الوجه أن يقال: اقْرِرْنَ؛ لأن من قال من العرب: ظَلْتُ أفعل كذا، وأَحَسْتُ بكذا، فأسقط عين الفعل، وحوّل حركتها إلى فائه في فَعَلَ وفَعَلْنا وفَعَلْتُم، لم يفعل ذلك في الأمر والنهي، فلا يقول: ظَلَّ قائمًا، ولا: لا تَظَلَّ قائمًا. فليس الذي اعتلّ به من اعتلّ لصحّة القراءة بفتح القاف في ذلك، بقول العرب في ظَلِلْتُ وأَحْسَسْتُ: ظَلْتُ وأَحَسْتُ، بعِلَّةٍ تُوجب صِحَّتَه لِما وصفتُ من العِلَّة. وقد حكى بعضهم عن (بعض الأعراب)، سماعًا منه: يَنْحِطْنَ من الجَبَل، وهو يريد: يَنْحَطِطْنَ. فإن يكن ذلك صحيحًا، فهو أقرب إلى أن يكون حُجَّةً لأهل هذه القراءة من الحُجَّة الأخرى.) وهذا الذي رآه الطبري أولى بالصواب عنده هو أنسب كذلك للنهي عن التبرُّج في الآية، بمعنى: التبختر، وعدم الوقار: {قِرْنَ في بُيُوتِكُنَّ ولا تَبَرَّجْنَ}.
ويتبيّن ممّا سبق أن أدواء الثقافة الشفاهيَّة كثيرًا ما تتظافر مع أدواء النزوع إلى أسلمة الأعراف الاجتماعيَّة الانغلاقيَّة في تشويه المفاهيم والمواقف. تشويهًا بلغَ في الموقف من المرأة- تساوقًا مع الشاهد السابق- إلى استنكاف الرجل حتى من ذِكر اسم ابنته أو امرأته، من حيث هو مجرد حروف تشير إلى وجود مسمًّى بها من النساء، ابتلى الله به الرجل في هذا الوجود! فلقد أصبح الاسم نفسه عورة، وأصبح من الحياء المصطنع، الذي لم تعرفه جاهلية ولا إسلام، أن يَبقى نَكِرة، بل نَسْيًا منسيًّا، قارًّا في معاجم اللغة، لا تحرِّك به لسانك في تداولٍ اجتماعيٍّ، ولا تكتبه على قرطاس؛ فذلك العيب والشنار الذي لا يليق بالإنسان القَبَليّ المحافظ في القرن الحادي والعشرين. إلى هذا المستوى بلغَ بنا الحال! ولذلك يتحوَّل اسم البنت إلى (كريمة فلان) في دعوات الزواج! وأيّ (كريمة) يَخجل أبوها حتى من ذِكر اسمها، وأيّ تكريم؟! وكيف يليق برجلٍ شريفٍ أن يعرف الناس أن له ابنة، وفوق ذلك أن لها اسمًا أُنثويًّا ما.. واسمها: فلانة؟! يا للعار.. في أيّ تراب سيدسّ وجهه من القوم؟! يَحدث هذا لدينا، وهو من ميزاتنا العالميّة، وخصوصيّاتنا التاريخيّة الفريدة، ولا فخر! أمّا الكُنَى، فما يليق أن يتكنَّى رجل محترم، ولا حتى امرأة محترمة، باسم بنت؛ فإنْ كان لهما ولد تكنَّيا به، وإنْ لم يكن، فهو: أبو فلان، وهي: أُمّ فلان. وليكن فلان هذا أيّ فلان، وإنْ لم يكن لهما ابنٌ بهذا الاسم! ولا عزاء للبنات!
إنها، إذن، جاهليّاتنا المستحدثة المبتكرة، التي ربّما مثَّلت اليوم تراث ما قبل الجاهلية الأولى. بل لقد كانت للمرأة في الجاهليَّة الأولى مكانتها الاجتماعيّة السامقة، ولقد تكون أميرة قبيلة، أو قائدة جيش، أو ملكة شعب، وربما كانت ذات قداسة في اعتقاد قومها.
أ من المبالغة القول بعد هذا: إنه تخلُّفٌ عنصريٌّ لم يسبق لهما مثيل في التاريخ البشري كلّه! ذلك أن العرب، حتى وهم يئدون بناتهم قبل الإسلام، إنما كانوا يفعلون ذلك (خشية إملاق)، خوفًا على المرأة من ضرورات الفقر أو السَّبْي ونحوها، لا عن احتقار للمرأة في ذاتها، ومن حيث هي عنصرٌ دُونيٌّ مُزدرًى، يستنكف المجتمع الذكوري حتى من اسمه، كما يشهد واقعنا المتردّي اليوم.
لكن ما يحدث ليس هذا فحسب، بل تعميمه كذلك، وترسيخه، وبثّه في العالم، وعبر قُطعان الأجيال، ليضيف إليه كلّ جيلٍ اجتهادات جديدة في تعميق السراديب القديمة!
** ** **
(1) (2001)، تفسير الطبري، تح. عبدالله بن عبدالمحسن التركي (القاهرة: دار هجر)، 19: 96- 97.