(ولم تكن بيئته - آنذاك - تساعد على القراءة والكتابة، فحارته تغلب عليها الأمية، ولا تصل إليها الصحف، ولا الكتب، ولا يفكر أهلها في ذلك، ولم تكن على اتصال بأدباء الحجاز، أو الخليج، أو مصر، أو الشام؛ وكان طموح والده له أن يفك الحرف..)
بهذه الكلمات يبدأ الدكتور عبد المحسن القحطاني الفصل الحادي عشر من الجزء الأول لسيرته الذاتية (بين منزلتين) وكأنه يرفع شارة الانتصار معلناً تحقيق طموح أبيه بأن أصبح من أرباب صناعة الكلمة لا تهجية الحروف فحسب، وهو (اليتيم) الذي فقد أمه بعد ولادته بستة شهور، وعاش حتى من دون رؤية ملامحها في صورة غير الوصف الشفهي وخياله الراسم لها بملامح الأم التي تستحق من ابنها أن يكون رضياً بارّاً بها في قبرها الذي لا يعرف مكانه تحديداً إلا بما يقال له من احتمالات. وهو (اليتيم) الذي مات عنه أبوه في أصعب مرحلة من سني عمره، إذ كان في السابعة عشرة وكان يقف بين مفترقات متعددة ومتباينة لاختيار المستقبل الذي سيسعى إليه وحيداً يستجمع قواه من انكساراته ويختبر صلابته من القدرة على الاستمرار في الطموح..
هل عاش عبد المحسن القحطاني حياة طبيعية؟ وهل تستحق حياته أن تملأ كتاباً متتالي الأجزاء؟ هذان السؤالان لا يحتملان سوى إجابة واحدة من ثلاث إجابات بالعادة: إما (نعم) أو (لا) أو (ربما)؛ غير أن من يقرأ الكتاب في جزئه الأول متعدد الفصول والتفصيلات، لن يقدر على اختيار إجابة محددة للسؤال الأول، بينما السؤال الثاني بكل تأكيد ستكون الإجابة عنه بأنها لا تستحق فقط، بل تستوجب عليه كتابتها من أجل إعطاء الدروس التي تعلمها من مشوار حياته الذي كان قطعاً غير طبيعيّ ولكنه استطاع أن يجعل حياته لا تقل طبيعية عن أي حياة عاشها غيره من الناس الذين حققوا نجاحات جعلتهم في طليعة المجتمع، حتى بدت وكأنها الحياة التي لا بد منها لكل مثقف..
يقول: (ظل يتأمل الأشياء ويحيّثها، بل يضع لها أسبابها؛ فكانت الكلمات البسيطة التي تخرج من أفواه الأميين خير معين له؛ لأنها تعني التجربة، والحكمة، والصدق، وقلَّ أن تجد ذلك عند الفلاسفة والمنظرين الكبار؛ لكنه يتأملها ويربطها بفلسفة معينة استقاها من التأمل، وليس من الدراسة).. هو يقول ذلك عن نفسه وتجربته الآن، وهو من هو في تحصيل أعلى الشهادات الأكاديمية في العلوم اللغوية والدراسات النقدية التي نطلق عليها مجالاً أو مجازاً مسمى (ثقافة) فهل ثمة دليل أقطع من تلك العبارة، حين تأتي من متخصص تنظيراً وممارسة، على ارتباط الثقافة باليتم؟ صحيح أن كثيراً من المثقفين لم يكونوا أيتاماً في المراحل الأولى من حيواتهم، وصحيح أن كثيراً من الأيتام لم يصبحوا مثقفين حتى نهايات أعمارهم، غير أن الثقافة حين يختبرها يتيمٌ وتختبره، ليختارها وتختاره، تكون أعمق من أي ثقافة تلامس أي مثقف ملامسة تكميلية دون احتواء حقيقي كالذي تفعله مع يتيم يشعر بالفقدان من داخله، في صحوه ومنامه، فلا يجد غير التأمّل حاضناً له احتضاناً يثقفه من داخله ويهيّئ له مقومات الثقافة التي من الممكن أن تمنحها له الحياة..
لم يستسلم عبد المحسن القحطاني للوحدة التي هي الخيار الأخصب لنمو التأمل، بل اختار بإرادة قوية أن يتزوج بأفضل طريقة من الممكن أن يتزوج بها شابٌ في ذلك الزمان وتلك البقعة من الأرض الفقيرة في كل شيء حتى الخيارات، فقد كان زواجه المبكر مباركاً من كل النواحي، جامعاً للرغبة الذاتية ورضا الأب المتوفى واحتياج المسلك الذي كاد أن يكون وعراً فيما لو قطعه بمفرده، وخيّم على كل ذلك موقفٌ رائع حدث في بيت الله الحرام بمكة المكرمة جعل من ذلك الزواج مثالياً بكل المقاييس؛ فكانت زوجته وأمها داعمتين له بكل ما ينقصه ويحتاج إليه من بعد فقدان، لاستكمال مسيرته التي اختار لها الطرق النظامية جداً ليجتاز بها الطرقات المنقطعة بوفاة والديه. وكان قد تخرج للتو من المعهد العلمي والتحق بكلية اللغة العربية التي يقول عنها:
(والكلية - آنذاك - كانت تميل إلى الدراسة المعيارية، بل وترسِّخ هذا المفهوم في أذهان طلبتها، فأخذوا يصدرون أحكاما قطعية، وكأنه الحق كل الحق، وما عداها غير جدير بالاهتمام، بل حتى بالذكر، وهذا ضيَّق من مساحة الحوار، وأبْرَزَ مساحة التوجه الواحد، والحزب الواحد، ومن خرج عليهما أصبح منبوذاً..)
من هنا بدأت رحلته الناضجة طوراً ثقافياً مميزاً، فاتخذ الفتى قراره المستقبليّ بالاستقرار المصيريّ على موقفه البرزخيّ الدائم (بين المنزلتين) ولن أطيل الوقوف عند هذه الرحلة الممتلئة بالمقاربات الفكرية والمفارقات الفلسفية بقدر ما سأحرّض على اكتشافها أدبياً، فهي رحلة أعطت أبعاداً لمفردتي (اليتم) و (الثقافة) بشكل أحسبه لم يعطَ قبلاً، إذ لم يترك الفتى مجالاً لقسوة أيّ منهما - أعني اليتم والثقافة – أن تجعل منه متوغلاً في الحزن أو مست وحشاً للناس أو متطرفاً في آرائه بأي حال من الأحول، كما جعلت من غيره – ربما أنا! – بل هو استطاع أن يطوّع تلك القسوة التي واجهته ويجعلها سلاحاً في يده بدلاً من تركها شوكة في قلبه، ومضى يتدرّج في السلالم الموصلة إلى مبتغاه..
ولم تتركه القسوة في حاله عند هذا الحد، بل خطفت منه أول صديق حميم له، وكأنها تذكّره بأن الموت الذي جعل منه يتيماً لا يزال يلاحقه؛ فما زاده ذلك إلا تمسكاً بمن حوله من زوجة وأولاد ودراسة متوسطاً بها منزلة لا تجعل منه متفرّداً منبوذاً ولا تمسخه كأي كمالة عدد بين الجالسين معه على الكراسيّ التعليمية نفسها..
وقد يجد غيري في هذا الكتاب – السيرة (بين منزلتين) نقداً لقضايا متعددة، وفلسفة لرؤى كثيرة، وتأريخاً لمراحل متباينة من حياة الناس في شبه الجزيرة العربية في العهود الأولى من تأسيس المملكة العربية السعودية.. جاءت في مئتين وثماني صفحات مقسمة على ثلاثين فصلاً يحمل كل منها حزمة من الأبعاد المعرفية في أعلى مستوياتها، لم تأت بشكل متسلسل كالسرد الروائيّ، بل جاءت على طريقة المواد المتسقة ببعضها اتساق الإمعان في التأمل حول كل خطوة من منطلق وغاية، فتقرأ معلومة عن أسباب وفاة الأم والأب ثم تقرأ عن طفولتهما وشبابهما وزواجهما وكيف ومتى رحل كل منهما ليبقى الطفل يتيماً. وتقرأ صدى هول فجيعة الصديق بموت صديقه ثم تقرأ كيف نشأت صداقتهما، وهكذا.. غير أنني تقصّدتُ أن تكون مقالتي هذه - المنشورة على حلقتين، الأسبوع الماضي والآن - تطوف حول الأثر المشترك الكامن في مهجة كل من مرَّ بتجربة اليتم واصطحب تجربته مع تجارب مماثلة في رحلة تكوين ثقافة تليق بمشروعه الأدبيّ مع الحياة التي ابتدأت مصافحتها له بموت أحبّ الناس وأكثرهم أهمية بالنسبة إليه؛ وهذا ما دعاني ويدعوني دائماً لتحريض كل صاحب تجربة حقيقية رسمت مداخلها على أجفانه وحطت بثقافتها على كتفيه وتمكنت من ذاكرته حدَّ الإيمان بأنها أساس تكوينه القدريّ أن يكتب سيرته قبل أن يلحق بمن يحب من الراحلين. وختاماً أقولُ: شكراً د. عبد المحسن على تكريمك لي بأن منحتني فرصة قراءة كتابك القيّم هذا، وسمحتَ لي أن أكون أول من يحتفي به وهو لا يزال مخطوطاً؛ فأكمل جميلك مع أمثالنا من الذين ثقفهم اليتمُ أيما ثقافة، ولا تمتْ قبل أن تتأكد من طباعة هذا الكتاب ونشره. (ومن كان مثلنا فليفهم ما أعني)!