ما بين بزنسة المفاهيم وميثاق الشرف الثقافي «جدلية الكينونة الثقافية» أو «بورصة الرأي والرأي الآخر»، والبيني ها هنا ليست دلالة على حالة بمعنى «التوسط» إنما دلالة الآلة بمعنى استغلال ما يحسب ضمن قيمة مفتوحة، وبذلك فنحن أمام «استثمار مختلف على شرعيته الجذرية» مما يجعل الجواز من عدمه متعلقاً بمقام الضرورة والنفعية أو متعلقاً بوقوع ضرر بالخلاف والصراع، وكلا الأمرين مرتبطان بالكينونة الثقافية للفرد والجماعة.
إن أي ثنائية تهدف إلى توسيع التنوع وتحصيل بيئة ثقافية داعمة لمبدأ الشراكة والتشارك الثقافيين.
أما الحديّة والحدودية التي تكسبهما الثنائيات فهي ليست أصلاً في نشأتها إنما هما طارئان يستصنعهما أصحاب الثنائيات لضمان حدودهما من الاندماج وأصليتهما من الاختلاط، وهما إحاطة غالباً ما تقوم على «ظنية الباطن الشبه أو ما يتوقع أنه مُؤدٍ إلى شبه» كما أنهما أقصد الحدية والحدودية أهم وسائل تحويل الثنائيات من هدفها كمُوسِع للتنوع يسعى للتكاملية إلى مسوغ لجدلية الخلاف.
والثنائيات غالباً تتشكّل في ضوء «جدلية الكينونة الثقافية» التي تدعمها بزنسة المفاهيم، وكلما انزلقت تلك الجدلية إلى عمق «المتاجرة بالأيديولوجية» توسع ميلها إلى الحدية والحدودية تمحوراً وصراعاً وإقصاء.
إن المعطى في ذاته لا يكوّن اختلافاً أو خلافاً إنما طريقة إيماننا بذلك المعطى أو عدم إيماننا به وتصرفنا في كيفية استثماره هو الذي يحوّل المعطى إلى «بينيّ» ذي دلالة آلية.
فالكينونة الثقافية ليست في ذاتها معطى خلافاً أو صراعاً وهي تتحول إلى ذلك متى ما أصبحت»بينيّ» من خلال ثنائية الباطن والظاهر ووسيلتهما الرأي و الرأي الآخر.
وهو ما يدفعنا إلى اعتبار «الرأي والرأي الآخر» ثنائية، اعتباراً يقوم على أصل وصفهما «الباطن و الظاهر».
عادة ما يُجيّر ضمنياً أن «الرأي» المبتدأ به هذه الثنائية هو الممثل للغالب أو العمومية أو الصحة، و»الرأي الآخر» هو الممثل للأقلية والخصوصية والشذوذ، أو هذا ما تحفزه مخيلتنا الذهنية عند سماع ثنائية «الرأي والرأي الآخر» ولعل السبب هنا إضمار ممثل «الرأي» المبتدأ به والإضمار يعني غالباً الاتفاق على مشترك في حين الإظهار ضرورة إعلانية لوجود «خلاف أو اختلاف» أو قل فيه إعلان عن «الخروج على نسق التوافق المشترك»، كما أن الرأي ليس ممثلاً «لمقام الأنا في جذرها الفردي» كما نظنه وفقاً لتقابله مع الآخر إنما هو «مجموع الأنوات» الممثلة للاتفاق المشترك، وبالتالي يظهر الآخر كونه ممثلاً عكسياً للمتفق المشترك.
إضافة إلى ذلك أننا نُرجح الأغلب لمن يملك وثيقة واضحة لمُعرفات حامل إشارات الظاهر، والوضوح هنا عادة ما يتحقق كما قلت سابقاً بوجود وثيقة أو مرجع برمجي واضح لتحليل المؤشرات وفك مضموناتها إضافة إلى وجود سلم مفاهيمي متفق عليه وبرنامج حماية لميثاق الشرف الثقافي.
وهنا نحن أمام «إشكالية الوجود للرأي والرأي الآخر»، تلك الإشكالية التي لا يمكن فصلها عن «إستراتيجية الفهم؛ لأن تفاعلنا مع طبيعة الفهم مرتبط بفهمنا للوجود «المفاهيم وشرف التزامنا بمضمونها أو وجوب إنكارنا لمضمونها» لأنها هي المنظم لطريقة تحليلنا لحوامل إشارات الظاهر، كما أنها هي المتحكم في مفاتيح فك شفرات باطن كل ظاهر.
وبذلك، فإيماننا بوجود مضمون سواء أكان مفاهيمياً أو قيميّاً هو ناتج لفهمنا المبرمج، والفهم في تصوره الأولي غالباً ما يكون مرتبطاً بعقيدتنا نحو الأشياء، ووفق ذلك فالفهم هو حاصل معرفتنا بتجربة الوجود ولذلك ترتبط غالباً نظرية التأويل بنظرية الظواهر؛ أي أن كل ظاهر هو تعريف لمؤشر أو مجموعة مؤشرات باطنية.
وعليه يمكن القول بأن فهم الوجود في كينونته الثقافية يُعتبر أهم معيار لصناعة ثقافة الفهم وجدلياته على مستوى التناقض والصيرورة والثبات والجزئية والكلية، وهذه الأهمية لا تحضر إلا بمعية الوعي ولا تكتمل إلا به.
وتتأسس الكينونة الثقافية القائمة على الفهم على مجموع الأحكام والأنظمة والقيم التي تسعى إلى تشكيل وتحليل خصوصية تصور المرء نحو ذاته ونحو الأشياء سواء على مستوى الإنشاء أو التأليف أو التقويم، مع التأكيد أن ذلك التأسيس يلتزم بالضرورة بالمتفق الجمعي للمفاهيم وببرنامج حماية ميثاق الشرف الثقافي.
مما يحول الكينونة الثقافية إلى جدلية صراع فكري يعتمد على «تفتيش النيّات ومحاكمتها» أي التورط في ممارسة التأويل الفاسد للباطن.
وقد ارتبطت جدليات الكينونة الثقافية بالفهم والحقيقة والقانون الفكري، بدءاً من الإقرار بأن كل كينونة ثقافية هي حامل لحقيقة ممثلة لثبات وكلية، وبالتالي فهي برهان على مؤشر صيرورة يقابله مؤشر انتفاء تناقض.
وبذلك فنحن أمام خصائص لتلك الكينونة الثقافية وهي النظام والحكم والقيمة المرتبطة بإستراتيجية المفاهيم وبرنامج ميثاق الشرف الثقافي.
وتلك الخصائص التي يمكن أن تدخل في اعتبار المنظومة هي التي تضمن للكينونة الثقافية ثباتها وكليتها، وبذلك لا يمكن التأثر والتأثير للكينونة الثقافية إلا من خلال تلك الخصائص المنظومة.
وهنا تتجاوز الكينونة الثقافية المتزنة بشرط تنفيذها للاستقصاء الموجه العادل قصدية الوعي الذاتي أو المرآتي إلى قصدية الوجود الإنساني أو الفضائي بمستوى الانفتاح والتداول من خلال التعامل مع الظواهر بوصفها مشاريع وإمكانات.
وبذلك يتم تحرر وتحرير الكينونة الثقافية من هيمنة الوعي القصدي سواء في مستواه الذاتي أو الجمعي الموجه بالتعالي؛ لإفساح المجال للحوار بين الذوات في مقاماتها ذات الصوت الواحد أو الصوت الثنائي أو الجمعي من خلال محاولة الكينونة من إيجاد معادلة ميزان ضابطة لتعايش مشترك مع الآخرين.
وتلك المعادلة هي التي تمنحها طاقة الصيرورة والقدرة على تدوير تشكُّلها بالتعديل وإعادة بنائها، وبذلك فالصيرورة ها هنا تساعدها على الاندماج مع فاعلية الوقائعية أي الانضمام إلى مجموع العلاقات العالمية وفهمها.
تتحرك جدلية «الكينونة الثقافية» وفق ثنائية «الظاهر و الباطن» أو ما نسميه «الرأي والرأي الآخر».
إن ثنائية «الباطن والظاهر» عادة ما تكون مركز كل جدلية كما يقوم عليها التفسير والفتوى التأويليان، وهي بذلك تدفع العقل إلى التفكير وتوليد التأثيرات المتناقضة، والمحيطة بالشبهات وبذلك فهي مكون رئيس لصراع الأفكار و المذاهب، ويتوالد الصراع ويتعالى كلما انزلقت المفاهيم إلى عمق «البزنسة الأيديولوجية» وغابت مبادئ برنامج ميثاق الشرف الثقافي.
ولا شك أن لصراع الكينونات الثقافية أهمية في تطوير التجربة والخطاب الفكريين للفرد والمجتمع في حالة تحقق ضابط لموضوعية المفاهيم وضابط لاحترام أيديولوجيات الجماعة شريطة أن يكون الاحترام غير ضار بتجربة التطوير الفكري.
وبالتالي فالنفعية الحاصلة من تلك الثنائية المكونة للرأي والرأي الآخر أنها مصدر إنتاج التصور التأويلي للأشياء التصور المبني عليه «حكم الفاعلية والجواز والحرمانية». وهكذا فكل ظاهر هو حامل لإشارات تتضمن مسوغ الإقرار سواء بالنفي أو الإثبات، لكن ذلك التضمين بالإقرار يجب أن لا يصل لمستوى الإغلاق ومتى ما وصل لمستوى الإغلاق وقع في التوهم بأحادية الحقيقة.
والتوهم بدوره يعني مصادرة حق الآخر في تجريب الإقرار؛ فليس هناك إثبات قاطع أو ما يدخل في صفة الديمومة بأن الإقرار الذي عرّفت به حامل إشارة الظاهر هو التعريف المطلق للظاهر، كما أن ليس هناك دليل قطعي أو ما يدخل في صفة الأزلية أن أعتقده هو الحقيقة المطلقة للظاهر أو الحقيقة ذات الصفة الخالدة، لأن الحقيقة تظل معادلاً للمعرفة والمعرفة كائن سيّار، ولذلك هي دوماً تتبع مؤشرات لا تخضع لمؤشرات.
وهذا الافتراض قائم بالضرورة كلما ظهر مُعرِف جديد لحامل إشارة الظاهر ومؤوِل آخر لإضافة أو حذف ما يُعدِل بطاقة التعريف أو يُعيد برمجتها.
ولذلك تظل مسألة الجواز بإمكانية إقرار مضمون أو حكم أو الترجيح التقريبي للصواب أو الخطأ في ثنائية الرأي والرأي الآخر غير مُحيطة بأي موانع أو تحفظات ما دامت «خصائص تعريف» حامل الإشارة متوافقة مع إمكانية الظاهر وقدراته» و غير داعمة لخلود.
ومتى ما أُحيطت تلك المسألة بموانع وتحفظات تتحيز إلى ترجيح حامل إشارة دون غيره ترجيحا يُبنى على حكم يحمل إثباتاً بالتزكية الأيديولوجية يقابله حكم بنقض بالنفي والحرمانية إثباتاً يتوافق مع المنطق أو أحادية تصنيفية؛ دخلت ثنائية الباطن والظاهر من خلال الرأي والرأي الآخر جدلية صراع الكينونة الثقافية لتصبح مسوغاً للفتنة الثقافية.