حيث كنت مع طلبتي في مصادر التعلم ذات حصة، يتطلب مني منهجي الدراسي تنوع أساليب التعليم، ومنها (هذه الحصة) ضمن خطتي الدراسية. وبينما كنت في حالة بحث علمي في حدود المنهج المدرسي وجدتُ مصادفة داخل أحد الكتب (ملحق الأحساء)، الذي كان يصدر يومياً مع جريدة اليوم (توقف منذ مدة). هذا الملحق يهتم فقط بأخبار الأحساء وما يتبعها.. (الملحق) الذي بين يدي يعود تاريخه إلى التاسع من شهر ربيع الآخر 1426هـ المصادف يوم الثلاثاء، وعدده 1659. تصفحت الملحق، وقرأت في الصفحة الأخيرة منه، ومن خلال عمود، مقالاً جاء في شكل قصة، تحمل عنوان (في شهرها التاسع) للكاتبة والمبدعة تهاني الصبيحة (الصبيح حالياً). لن أتحدث عن مضمون هذه القصة وما بها من إسقاطات، بل سوف أنقلها لكم كاملة:
(ركبت «منى» المعلمة الحامل في شهرها التاسع الباص في مسير طويل، يمر بمحافظة الخرج ثم الدلم وحوطة بني تميم وبعدها الأفلاج، وأخيراً وادي الدواسر حيث تصل المعلمة إلى منطقة عملها عندما يعلن المؤذن صلاة الفجر. إنها مع تعبها مضطرة للذهاب؛ لأن أيام غيابها المدونة في سجلها بمسمى «بلا عذر» كثيرة، ولن يسمحوا لها بتجاوز العدد المحدد لهذه الأيام رغم ظروف الحياة القاسية التي ألزمتها الغياب. هي مضطرة للعمل؛ لأن زوجها بلا وظيفة وأبناءها بلا مأوى. سؤال واحد حطم الصمت الذي خيم على آهات المعلمات المسافرات: ما بكِ منى؟ ألم يمنحك طبيبك إجازة مرضية؟ قالت: الإجازة المرضية أمر تتحكم فيه مزاجية الطبيب أكثر من الحالة الصحية للمريض.. فإذا كان الطبيب مستقراً هادئ البال، ولديه مقدار وافٍ من الإنسانية والرحمة، يعجل بكتابة عذر طبي يهون متاعبي.. وهو بهذا يرحمني من مخاطر الطريق، وينقذني من أوجاع ثقل الحمل. أما إذا كان الطبيب شخصية معقدة، يعمل بضراوة، ويمارس الدور القيادي البحت كطبيب، ويفرش ريش الطاووس الواثق المغتر بنفسه أمام المريض.. إلى درجة لا يمنح فيها المريض فرصة الحديث عن مرضه أو معاناته.. في هذه الحالة تعتبر الإجازة المرضية منحة وهدية تحكمها العلاقات الاجتماعية. مررت بمواقف عالجني فيها أطباء إنسانيون بكل ما في الكلمة من معنى.. كنت أتلمس الرحمة تتدفق بهدوء من أنظارهم، وتغمر كل متاعبي دون أن أحتاج إلى التأوهات والشكوى.. وبمجرد زيارتي للعيادة أخرج بحيوية ونشاط لا عهد لي بهما.. فالطبيب يبتسم في وجهي أولاً.. ثم ينصت لما أقوله ثانياً. انقلب الموقف تماماً في زيارتي الأخيرة للعيادة... فما إن رجوت طبيبتي أن تكتب لي عذراً طبياً يشير إلى أنني على وشك ولادة، وأعاني تورماً في قدمي يعيق حركتي باستمرار.. حتى تغير وجهها، واحمرت أوداجها، وصرخت في وجهي بكل حنق: «إجازة مرضية.. إجازة مرضية.. تعبنا منكن يا معلمات الهجر.. لماذا تعرضي نفسك للحمل وأنت تعلمين في هجر..؟ توقفي عن الإنجاب حتى ينقلوك إلى منطقتك.. أنا لست مسؤولة عن حملك الذي تسرعت به في هذه الظروف.. صحيح أنك على وشك ولادة.. ربما تلدين اليوم أو غداً، وإذا طال الأمر ربما بعد غد.. لكنني لا أستطيع منحك إجازة مرضية فإدارة المستشفى تشدد على الإجازات المرضية.. إذا أحسست بتعب فحاولي البقاء في هجرتك وإتمام الولادة هناك.. تفادياً لأي مكروه.. اعذريني لا أستطيع مسادتك بالإجازة المرضية». خرجتُ من الغرفة أجرجر أذيال الخيبة والفشل، وبعد برهة تذكرت أنني نسيت جهازي النقال على طاولة الطبيبة، فعدت لأطرق الباب، وسمعت جدالاً عميقاً تقول فيه الطبيبة: «صعب علي يا أستاذة أن أعطيك إجازة أكثر من أسبوع.. فأنت لا تعانين من أي مشكلة.. [أسبوع واحد يكفي ونتفهم فيما بعد]». وحين فتحت الباب نظرت إليّ بذهول.. أما أنا فكنت أرمقها باحتقار؛ لأنها أقسمت على نفسها أمام بوابة كلية الطب بأن تكون إنساناً قبل أن تكون طبيباً.. فكيف تكون كذلك؟؟ وهي «فاقدة للإنسانية»)..
انتهت القصة، وانتهى المقال.
لن نقرأ هذه القصة في سبيل تسليط الضوء عليها من خلال تكنيك قصصي، وإن كانت تميل إلى الحكاية أو المقال القصصي، أو سرد الموقف إن صح أن نسميه، لكن سوف نحاكي هذه القصة من جانب أنها إبداع، وإبداع جميل، رغم ما بها من صغيرات العطوب إن قرأناها كقصة قصيرة..!! أظن بل أجزم بأن هذه القصة ليست إلا قصة حقيقية وواقعية، وهي تشير إلى حقيقة ما تعانيه المعلمة المغتربة، ومدى تضحياتها وإخلاصها لمهنتها، التي هي مهنة الأنبياء. وفي المقابل، تعكس القصة عدم الأمانة المهنية والإنسانية لدى بعض الأطباء والعاملين في المجال الطبي. وإنني ومن خلال هذا الطرح ليس غرضي إبراز معاناة بقدر ما هو إبراز للإبداع أياً كان، وما له من أثر فعال في إيصال المآسي بألوانها وأثوابها المتعددة..!
الصبيحة/ الصبيح في عمودها آنذاك حاولت إبراز مدى معاناة المعلمة بأسلوب أدبي، وظفت فيه أسلوبها السردي، وصورت هذه المعاناة، ونقلت ووصفت من خلاله شكلاً واحداً فقط من عشرات بل مئات من أشكال المعاناة، التي تتعرض لها المعلمات المغتربات في وطننا الغالي. نجد أن الإبداع - أياً كان - قد يكون وسيلة ورسالة توصل إلى المسؤول وصاحب القرار بأسلوب شائق ومؤثر، وفي الوقت نفسه تحمل مؤشرات لآلام، بصور متنوعة، تتشكل فيها أنواع الهموم وألوان العقد وغيرها، مما تعانيه المعلمة الأم.. والمعلمة الزوجة.. والمعلمة البنت.. والمعلمة الأخت.. والمعلمة..
الصبيحة/ الصبيح القاصة والروائية عكست معاناة معلمة، ربما تكون هذه المعلمة صديقة، أو قريبة، أو زميلة، أو.. فهي تشكل أنموذجاً لآلاف المعلمات المغتربات، وقد أبرزت بعض الإسقاطات من خلال توظيف الأسلوب القصصي كوسيلة لنقل الألم بمختلف ألوانه وأشكاله بأثواب مختلفة.