حينما نزلت مطار الأحساء مدعواً لملتقى جواثي الرابع، كنت أستحضر في ذاكرتي تلك المجموعة من طلاب الأحساء، والقطيف الذين شرفت بتدريسهم مادة الأدب العربي قبل ما يقرب من العشر سنوات في فصل صيفي أبهاوي!.. كنت أتذكر شاعريتهم وأدبهم وخفة أرواحهم، وأنا أقلب الطرف في الأرض الأحسائية، وأحاول أن أدفع عن ذاكرتي ارتباط الموهبة بالمكان!.. بَيْد أني كنت مضطراً إلى أن أسلم بهذا الهاجس، وأنا أقرأ تدفق الشعر وسلاسته على نحو نوعي وكمي في «الأحساء» وهي ظاهرة أجدها في جازان أيضاً، حيث ينثال عليك غالباً الشعر من هنا وهناك انثيالاً لا عوج يشينه، ولا أمتا يثقله! وتعود للسؤال عن مشروعية الوراثة «البيولوجية» أو المكانية! وتتأمل وتتأمل ومع كل صوت شعري قرأته أو سمعته أو رأيته تسلم بأن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!.. وتسير في الأحساء وأنت تحمل هذا الهاجس، فتفاجئك الأحساء بإنسانها الذي تلقاه غالباً لأول مرة، فتشعر أن حواجز المجاملة والترقب قد زالت مباشرة من الثواني الأولى!.. لقيت مثقفين وطلاباً وعاملين وسائقين، ووجدت لديهم روحاً متقبلة متسامحة، تشعرك بروح الأحسائي الجميلة، وهي الروح التي أيقظت المواجع، وأيقظت الآمال أيضاً حين كان شبابها يقدمون مسرحيتهم الجميلة:»أنا البحر» في افتتاح الملتقى، بقيادة المبدع د. سامي الجمعان.. وبقدر الألم فقد كنت أتابع أيضاً بمتعة وإعجاب أداء الشباب جميعاً، وبخاصة الروح الجميلة التي تلبست دورها، وأجادت فيه في دور الشاعر التحديثي.
سأقول أيضاً: إن نبل الأحسائي وكرمه وروحه المحبة للجمال، ونكتته الحاضرة لن تخفي عنك سيماء الذكاء والفطنة!.. ومع أني لست ماهراً بما يكفي في قراءة العيون، بيد أن عيون الأحسائيين تجبرك على أن تؤكد أنها عيون مختلفة فطنة لماحة!.. عيون بشرية يبدو أن بينها وعيون الأحساء العميقة الثرية علاقة تناسب وتناغم!.. عيون اليقظة والانتباه والحدة والوعي!.. أتحدث هنا عن عيون الرجال! ولست أعني بالطبع: «عيون السيد جرير»! ستكتشف أيضاً وأنت تتعامل مع الأحسائي أنه يتعامل معك بتلقائية جميلة، تزيح عنك ضغوط المجاملة المتعبة!.. هذه الأحساء سر من الأسرار القمينة بالدراسة والبحث! وكنت ولا زلت أتأمل في نهاية الملتقى الجملة البنيوية في قصيدة الحب الأحسائية التي رواها الأستاذ الدكتور ظافر الشهري رئيس نادي الأحساء الأدبي عندما وصل الأحساء لأول مرة قبل سنوات طويلة، حيث عين معيداً، ثم هزه الشوق الجنوبي ليذهب لوكيل الجامعة في اليوم الثاني لتعيينه يطلب الانتقال!.. وحينها طلب وكيل الجامعة - وهو وكيل ذكي فطن بأسرار الأحساء وروحها - من المعيد الجنوبي العاشق للجبال الخضراء أن ينتظر أسبوعاً ثم يقرر قراره الأخير!.. يقول الدكتور ظافر: عدت إليه بعد أقل من الأسبوع متراجعاً عن قرار الانتقال؛ لتبدأ قصة عشق متبادلة بين الشهري والأحساء!.. هذه الأحساء الولادة الفاتنة الساحرة الجاذبة!.. يذهلك الأحسائيون وهم ينتقلون بك بعد كل منشط إلى دار أو مزرعة من المزارع التي تحتفي بك فيها بشاشة الإنسان، قبل رحابة المكان.. إيمان عميق بالتواصل الإنساني والثقافي، ورغبة في مد جسور المودة والحب والعشق!.. ولا غرابة فالأحساء المختلفة تآلفت على العطاء العلمي والإبداعي!.. وإذا كنا نشكو من انصراف كثير من رجال الأعمال والمؤسسات المالية عن دعم العمل الخيري والثقافي، فإن الأحساء تقلب المعادلة تماماً، وربما يكون مناسباً أن أذكِّر بما سمعناه ورأينا بواكيره من دعم أسرة «الجبر» المباركة للنادي الأدبي بمبلغ يجاوز الثمانية ملايين ريال!.. وسيكون مناسباً أن أقول إن الشيخ الراشد كان يقدم ونحن في ضيافته وأسرته الكريمة أفكاراً وتصورات لشراكات مثالية مع النادي؛ للوصول إلى فئات اجتماعية من خلال التكامل بين العمل الاجتماعي والثقافي والوطني يتحدث ونحن في ضيافته وأسرته عن الهموم الوطنية والإنسانية التي يمكن من خلالها فتح نوافذ جديدة ليتقارب رأس المال مع الرؤيةالوطنية الثقافية الحضارية.. في ضيافة أمانة الأحساء يدعو الأمين المثقف المهندس عادل الملحم أمين محافظة الأحساء لتكون الأمانة مستضيفة للقاء القادم.. في ضيافة الأسر الكريمة «الطريفي والعفالق» تجد الهمّ الوطني الثقافي ملازماً لرجال الأعمال الذين شاء الله أن يعطوا فكرة عن رجال الأعمال لم تكن في أذهان كثير منا.. باختصار كانت الأحساء مختلفة في كل شيء!.. وإذا كان لامرتين يقول عن نياجرا: نياجرا..نياجرا... إنها نياجرا وكفى! فإن جمال الأحساء مكاناً وإنساناً يجعلني أقول: الأحساء.. الأحساء.. إنها الأحساء وكفى.