الانهيار (1)
سقوط الاتحاد السوفييتي السابق هو حلقة من حلقات الصراع بين العملية الثورية العالمية والرأسمال، فقد كانت الثورة الروسية ذاتها ليست إلا نتيجة لهذا الصراع، ولم تكن هي التجربة الأولى لبناء نظام اقتصادي - اجتماعي بديل، إنما سبقتها كمونه باريس في منتصف القرن التاسع عشر، التي تم القضاء عليها بعد 70 يوما، ولكن الصراع بقي مستمرا وسيستمر حتى إحلال العدالة الاجتماعية المنشودة التي ملأت شعاراتها شوارع وزواريب المعمورة حتى بلغت وول ستريت.
الصراع مرحليا هو صدام بين القوى، ولكنه على المستوى التاريخي الطويل هو تراكم تجربة وهو لا يسير بخط مستقيم، إنما متموج، بالمعنى العميق للكلمة، حيث كل موجة منها تثري الوعي الاجتماعي المغيب والمكبل بالموروث الهائل من تدليس المتسلطين على مر العصور.
تسليط الضوء على حدث تاريخي كسقوط الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية وانحسار اليسار له أهمية عظيمة ليست تاريخية وحسب، بل تمس مباشرة عصرنا الحالي، كما أن انبثاق سيناريو بركس+الأقطاب الإقليمية في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية يثبت باضطراد اقتراب نهاية الرأسمال وتأسيس نظام اقتصادي – اجتماعي لا رأٍسمالي – على النمط الصيني – ونظام دولي جديد يتيح الفرصة لجميع الشعوب في مسيرة نهضوية عالمية و(عولمية).
أثبتت التجربة العملية أن تحقيق توزيع عادل للثروة في ظل الرأسمالية لا يمكن تحقيقه من خلال مؤسسات المجتمع المدني وبقاء النظام الرأسمالي كما هو، لأن السلطة السياسية تستطيع السيطرة على تلك المؤسسات وتحويلها إلى أدوات قمع بدل أن تكون مناصرة لحركة التغيير، لذلك لابد من بناء نظام اقتصادي – اجتماعي لا رأسمالي بديل تكون السوق فيه مقيدة وليست حرة، وهذا يعني تحكم المجتمع بمقدار النتاج وتوزيعه وتوظيفه وتطويره.
(كمونه باريس) سيطرت على المؤسسات وطردت الرأسماليين من المصانع وشكلت مجلس نواب بديل وشرعت في توزيع الإنتاج على العمال، ثم هزمت بعد سبعين يوما بعد تدخل القوات المسلحة، وتم اكتشاف أن السلطة السياسية بأجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية ليست للشعب كله، إنما هي إداة بيد المالكين. أما (كمونه روسيا) فقد صنعت جيشا وسلطة بديلة، استطاعت حماية التجربة واستمرارها سبعين عاما، ولكنها لم تحقق نظاما اقتصاديا بديلا يصنع نظاما سياسيا متناسبا معه، إنما كانت السلطة السياسية الجديدة تصنع نظاما اقتصاديا بقرارات وأوامر لا تتناسب مع آليات الانتقال الطبيعية.
لا يتسع المجال للدخول في كل التفاصيل المتعلقة بانهيار التجربة، ولكن يمكن تلخيصها كما يلي:
اولا - التحول الاقتصادي:
زيادة الثروة كانت ولازالت هي العامل الحاسم في الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى، فالانتقال من القبلية إلى العبودية مثلا يعطي الحق لشيخ القبيلة، الذي أصبح سيدا، التصرف بكل إنتاج العبد ويعطيه ما يبقيه على قيد الحياة فقط، ولذلك نشأت حركة صعلوكية و(هوليودية) تسلب الثروة من الشيوخ وتمنحها لأبناء القبيلة الذين فقدوها ظلما.
ليس من مصلحة العبد العمل في الأرض، فإنتاجه كثيرا كان أم قليلا يذهب بمجمله للسيد، لذلك كان الأسياد يستخدمون السياط لإجبارهم على العمل، ولكن الإنتاج لم يكن تاما بهذه الطريقة، حيث كان العبد يعمل عندما يكون حامل السوط موجودا ويتوقف عن ذلك عندما يغادر. هذا الوضع الأقل إنتاجية انتقل طوعيا إلى نظام القنانة، أي أن القن هو مملوك أيضا ولكنه يملك إنتاج قطعة صغيرة من أرض الأسياد الكبيرة التي يقوم بزراعتها. نفس المبدأ كان السبب في التحول إلى النظام الإقطاعي، حيث الفلاح الحر يحصل على جزء من إنتاج الأرض وبالتالي من مصلحته العمل بجهد مضاعف في الأرض كلها وليس جزءا منها.
حاولت التجربة الروسية في بدايتها وضع الأسس لبناء نظام (اشتراكي) يهيئ الأرضية الفاعلة لانتقال الملكية من الخاصة إلى العامة، علما أنه لا أحد يعلم ما هي مواصفات هذه التشكيلة الاجتماعية الجديدة، ولكن التجربة أثبتت أنه لا يمكن تحقيق مثل هذا الهدف بدون استكمال البناء الرأسمالي، فشرعت مباشرة في تنفيذ إنجازات عظيمة أبهرت الأصدقاء والأعداء، كإنشاء السدود الضخمة وكهربة البلاد المترامية الأطراف وتأسيس البنية التحتية والمصانع العملاقة وتطوير الزراعة والصناعات الخدماتية والتكميلية والطاقة وتنمية الموارد البشرية، بالرغم من الدمار الذي خلفته الحرب الأهلية التي دعمها الرأسمال لإسقاط تلك التجربة.
لابد من الإشارة هنا إلى الكاتب الأميركي العظيم (جون ريد) الذي جاء إلى روسيا بعد الثورة ورأى مقدار الدمار المريع ولم يصدق أن روسيا قادرة على الخروج منه، فتمت دعوته للعودة إلى روسيا بعد عشر سنوات ليرى ما سيتحق، وعندما عاد لم يصدق ما رآه فألف روايته الشهيرة (عشرة أيام هزت العالم).
كانت تلك الانطلاقة جديرة بتحقيق نمو اقتصادي يفوق حتى التصورات الرأسمالية، وخاصة أن الإنتاج وضع برمته تحت إدارة ورقابة المنتجين في عملية ديمقراطية حقيقية بالمقارنة مع الديمقراطية الرأسمالية المزيفة، التي حولت مؤسسات المجتمع المدني إلى مجرد مؤسسات استجداء، ولكن تلك العملية أفسدت بإلغاء الملكية الخاصة بالكامل وأخضعت العملية الإنتاجية للأوامر الحزبية، التي كانت فاعلة في البداية، ولكن بعد رحيل الرعيل الأول للثورة، تحول الحزب إلى طغمة متسلطة وصاحبة امتيازات ومستفيدة من إبقاء الوضع كما هو بدون تغيير، حيث لا يمكن لعامل بلغ أجره خمسة أو ستة أضعاف أجر الطبيب، مهما بلغ إخلاصه أو ولائه الحزبي، أن يفكر في زيادة الإنتاج أو تحسين النوعية او تلافي الخسارة، لأن آلية الحاجة للتطوير معدومة لديه .
كان إلغاء الملكية الخاصة دفعة واحدة وليس إحلال العامة تدريجيا محلها بتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني، وخاصة النقابات، التي اكتسبت صلاحيات مستحقة لم تتوفر لها في ظل النظام الرأسمالي، هو الكفيل بالسير التنموي اللارأسمالي، وبوجود الملكية الخاصة، دون الخوف من الردة أو الانقلاب، ويكون دور (الأحزاب) مكملا لتلك المؤسسات وليس خانقا لها.
لقد تهالك الاقتصاد السوفييتي تدريجيا ليصبح عبئا على ما تم إنجازه في بداية الحراك وعلى مخزون الثروات الطبيعة، الذي كان ملاذا لسد ثغرات عجزه وتحمل أعباء التنمية في جمهوريات الاتحاد السوفييتي المتخلفة ودول المنظومة التي اعتقدت أنها اشتراكية ودول التحرر الوطني، التي تتوق للتخلص من الهيمنة الاستعمارية وبالتالي لم يستطع تحقيق التفوق الضروري ليكون مقنعا كبديل للاقتصاد الرأسمالي، بل لم يستطع الاستمرار.
استفادت الصين من هذا الإخفاق الروسي المريع، الذي يمس جوهر الديالكتيك، وصنعت نظام لارأسمالي ولا (اشتراكي - بالمفهوم الروسي على الأقل) بحيث يتم الحفاظ على الملكية الخاصة وتوظيف رؤوس الأموال في سوق ليست حرة، بل مقيدة بمراقبة شديدة من النقابات وحققت بسهولة مذهلة وبدون صدامات دامية تفوقا اقتصاديا أصبح نموذجا يحتذى به، ليس لشعوب العالم وحسب، بل حتى للدول الرأسمالية التي شرعت مؤخرا بتقييد حرية سوقها للخروج من الأزمات.
البقية لاحقا..