Saturday 19/04/2014 Issue 435 السبت 19 ,جمادى الآخر 1435 العدد

نيسان «أقسى الشّهور» وأوّل الدّم

في تلك الجبال العالية نشأت، الجبال التي تحرس القدس من جهتها الشّمالية الغربية. هناك حيث تمدُّ يدك فتلمس غرّة السّماء، أو تُسرّح بصرك فتلمح البحر البعيد وقد راح يتمايل بمناديله الفضّيّة المضيئة، هناك حيث الطّبيعة الفائرة المتمرّدة، والهواء المعطَّر الذي يلعب بالرّأس، فتحتُ عينيّ للمرّة الأولى فأبصرت غلالة من حلم رقيق يسمّى فلسطين 48. كانت هذه الفلسطين عذبة وغامضة وبعيدة، ربطنا صورتها نحن الأطفال بالجنّة. أتذكّر كيف كنّا في الصّيف نصعد الجبل العظيم المجاور لنطلّ على تلك الأرض السّحريّة أرض 48. من موقعنا في أعلى الجبل كنّا نشاهد عاصفة كاسحة من الخضرة تتمايل على سفحها بعض البيوت المسقوفة بالقرميد. كان يُخَيّل إلينا أنّنا أمام جسد أخضر عظيم مبقّع بالدّم، جسد مغدور جرى طعنه للتّوّ بعشرات الخناجر! عزّز تلك التّخيّلات لدينا تلك القصص الغزيرة عن النّكبة، والمذابح التي وقعت في تلك الأيّام، والتي راح الآباء والأمّهات يسردونها على مسامعنا ليل نهار.

«في أواسط نيسان من عام 48، وبعد معركة القسطل الشّهيرة التي استشهد فيها البيك»، يقول أبي ويقصد هنا قائد الثورة الفلسطينية عبد القادر الحسيني، «عمّت الفوضى صفوف المناضلين، وباتت المدن والقرى الواقعة على طريق القدس ـ يافا واقفة في مهبّ الريح. لقد كان من الأهمية بمكان الاستيلاء على القسطل كونها المرتفع الأعلى في الطريق الذي يسيطر على القدس». في البيت كانت هناك صورة كبيرة للبيك معلّقة على الجدار. كان يظهر بلباسه العسكريّ، ويمسك ببندقيّته، فيما صدره يتّشح بحزامين من الفَشَك. في عام 1977 ذهبت لزيارة الضّفة، كانت قطنّة وهي قريتي لا تبعد سوى بضعة كيلو مترات عن القسطل، وكان لا يفصلها عنّا سوى أراضي قرية أبو غوش المجاورة. اصطحبت معي بعض الأصدقاء ومضينا لمشاهدة القسطل، ولكنّنا فوجئنا بسياج عالٍ يحيط بالقرية، ويمنعنا من الدّخول. وهكذا وقفنا نتأمّلها من الخارج دون أن نستطيع العبور إلى تلك الجنّة المحرّمة. كانت قباب البيوت مغطّاة برفوف كبيرة من الطيور، كانت الأعشاب والأزهار البرية أيضاً قد شبّت في أزقّتها الضّيّقة، وفجأة التمعت في الرّأس صورة الحسيني وهو يقود المعركة، ووسط أصوات الرّصاص ودويّ القنابل انبجست غيمة من الدّم. يقول والدي: «البيك يابا خذله العرب. لقد ذهب إلى دمشق قبل أيّام من المعركة، كان هناك مؤتمر لوزراء الدّفاع العرب، قال لهم الشعب الفلسطيني بحاجة إلى السلاح، ولكنّهم لم يعطوه شيئاً. في هذه الأثناء جاءه خبر احتلال القسطل، فقفل عائداً إلى الوطن، وجاء كي يستشهد».

«....كان أكبر تلك المذابح التي وقعت في حرب 48، في شهر نيسان مذبحة (دير ياسين) المعروفة، تلك القرية الوادعة بجوار مدينة القدس. في البداية تنادى الشباب للدّفاع عن قريتهم، لقد حاربوا ببسالة، ولكنّ الذّخيرة نفدت منهم، ممّا مكّن العصابات الصّهيونية من محاصرة القرية، ومن ثمّ اقتحامها وقتل ما يقرب من 250 شخصاً من سكّانها البالغ عددهم 750 مواطناً. بهذا يكون الصهاينة قد قتلوا ثلث سكّان القرية، أمّا الذين ظلّوا على قيد الحياة فقد نجوا بأعجوبة من بين أنياب الموت، بعضهم أصيب بعاهات دائمة، وبعضهم جُنَّ». في أواخر السّتينيّات التقيت بأمّ فخري، المرأة السّبعينيّة من (دير ياسين)، وسرَدَتْ عليّ تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم المشؤوم، يوم وقوع المذبحة. لقد كانت ذات جسد نحيل، وكانت تعاني من مشكلة صحّيّة غامضة، كانت تشكو من آلام مبرّحة في بطنها. «في داخلي أمعاء من البلاستيك» قالت أم فخري، ثمّ انخرطت في نوبة حادّة من البكاء، وأخذت تسرد الواقعة: «بعد أن دخل الصهاينة القرية، أخذوا بإلقاء القنابل والدّيناميت علينا من الأبواب والشّبابيك، لقد سقطت البيوت على رؤوس النّاس. ونتيجة لذلك فقد عمّ الذّعر في كلّ مكان. كنّا في يوم قيامة حقيقي. أحياناً كان الجندي الصّهيوني يمسك بالطّفل ويقوم بذبحه على ركبة أمّه ثمّ يبقر بطن الأمّ. بعد ذلك قام الصهاينة بجمع الرّجال في السّاحة العامّة في البلد، أمروهم أن يرفعوا أيديهم، وأن يديروا وجوههم باتّجاه أحد الجدران، ثمّ قاموا بإطلاق النّار عليهم. لقد قتلوهم بدم بارد. انسدّت أبواب الأرض في وجوهنا نحن النّساء والأطفال، وصرنا نبحث عن منفذ للنّجاة. عند ذلك صاروا يصرخون بأعلى صوتهم، ثمّ انقضّوا علينا بوابل من الرّصاص، فسقطنا على الأرض. أنا كنت نصف ميتة يا بُنيّ، وبين اليقظة والغيبوبة رحت أشاهد ما يحدث. في الواقع كنت أختلس النّظر، وأحرص على عدم الحركة حتى لا أترك لهم مجالاً لقتلي بشكل كامل. أحضروا شاحنات وحمّلوها بالجثث، ومن ضمنها جثّتي. مضت الشاحنات خارج القرية وألقت بالجثث في أحد الجروف. في اليوم التّالي دبّت العزيمة فيّ وصمّمت أن أعيش. بصعوبة بالغة صرت أزحف، وأجرّ معي أمعائي التي اندلقت من بطني واختلطت بالتّراب. لقد زحفت وزحفت إلى أن ابتعدت عن المكان، لا أذكر بعد ذلك ما الذي حدث لي. فيما بعد، وفي أحد مستشفيات القدس عرفت أنّ جماعة من أهل البلد عثرت عليّ وأنا قاب قوس مالموت، فأنقذت حياتي». قالت أم فخري: «لقد وضع الأطبّاء لي هذه الأمعاء المستعارة من البلاستيك، ولذلك فأنا لا أستفيد من الطّعام الذي أتناوله».

ما إن يتحدّث والدي عن خروجنا الأوّل من الوطن، والذي كان في شهر نيسان أيضاً، حتى يشرع بالحديث عن حكايته المؤلمة عن الحصان. مرّات عديدة سرد الحكاية: «لقد عزّ عليّ أن أتركه في (البويرة)»، يقول « وقد ربّيته كما ربّيت أخاك الكبير. حينما انهمرت القذائف علينا من قبل الصهاينة، وبدأنا بالرّحيل أخذ السّيّد الحصان يبكي، ورفض أن يتحرّك من مكانه. دلّلته برهة، فقَبِلَ الخروج معنا على مضض، ولكنّه كان كلّما مشى قليلاً يقف وكأنّه يراجع نفسه. استمرّت الأمور على هذه الحال حتى وصلنا منعطفاً خطراً من الرحلة. كنّا مكشوفين لليهود، وفي هذه الأثناء وقف على قائمتيه الخلفيّتين واستدار ليرجع. عند ذلك لم أجد من خيار أمامي سوى أن أعالجه بضربة قوية أسقَطَتْه في الجرف المحاذي للطريق». طبعاً لا بدّ من القول إن الوالد في السنوات الأخيرة من حياته صار ينفي ما فعله بالحصان. الأكثر من ذلك أنّه فيما بعد أنكر حدوث القصّة من أساسها، وأنكر وجود الحصان أيضاً!

«على كلِّ كنّا نسير مع تلك الجموع العظيمة من الناس الراحلين، فبعد أن سمعنا الأخبار حول سقوط قرية القسطل، والمجزرة التي وقعت في دير ياسين، وأمام قصف الخربة والقرى المجاورة لم نجد من سبيل أمامنا سوى الخروج لبعض الوقت، ريثما تسنح الظّروف لنا بالعودة» ـ من الأمور التي أكّدتها الوالدة أنّ أبي لم يسمح لها بأخذ أكثر من أربعة أرغفة للأسرة، وقد صاح في وجهها: إنّنا سنبيت هذه الليلة في الكروم، وفي اليوم التّالي سنرجع، فدعي الخبز يا امرأة ـ « كنّا نمشي ونختبئ تحت الشجر، ومع ازدياد شدّة القصف صرنا نهرول. هناك من دكّته قنبلة فخرّ صريعاً، هناك من أضاع أحداً من أسرته، وهناك من فقد البوصلة فمشى في الاتجاه الخطأ. وصلنا سهل بيت لقيا فانهمرت علينا السماء بمطر غزير من الرصاص والقنابل، فيما بعد وحين تسلّلت إلى الخربة وجدت الكارثة التي ما بعدها كارثة، فقد نسفوا البيوت».

الآن وأنا أسرد هذه الذّكريات المريرة عن النّكبة بعد ستين عاماً من وقوعها، أحسّ بأنّ تلك السّنوات السّتّين مرّت مثل يوم طويل واحد. أمس كنّا هناك، واليوم نحن هناك أيضاً، وهنا، في المكان، وفي اللامكان. في بلاد الواق واق، في الصحراء، وفي الجحيم، ولكنّنا لن نكفّ عن تدريب قلوبنا على الحب والجمال والحرية، لأنها الأجنحة التي ستحملنا إلى الوطن. لن نكون مثل أعدائنا القبيحين الذين تخصّصوا في قتل الأطفال وهدم البيوت وقطع أعناق الشّجر، وسنصرخ في وجوههم بصوتنا العالي المدوّي: لديكم أيّها السّفلة صواريخ نووية! طزّ! ماذا ستنفعكم وأنتم تعيشون تجلّيات هذا الفصل الكامل من العري من عمر (دولتكم) القصير!

يوسف عبد العزيز - فلسطين Yousef_7aifa@yahoo.com