حينما نستهل قراءة نصوص المجموعة القصصية الجديدة للقاصة والكاتبة فوزية الجارالله تفاجئنا اللغة السردية في حضورها المتمكن، وخطابها الوجداني حتى تكون اللغة أوراقا حكائية ملونة، ومنقولات تصف المكان بدقة متناهية وبتجرد لا يهيل على الذات بعض الرتوش إنما هي لوحات سردية تنبعث من ذات مشبعة بالتجارب والمعاناة.
ومع أن العنوان للقصة الأول «يوغا» يحمل دلالة الهدوء والتفكير بصوت هامس حول علاقة وجدانية تسكن وعي الكاتبة وتفرضها على رواة هذه القصص واقعاً تخييليا وتأمليا إلا أن الأمر لا يخلو من مقاربة بين ذكريات عاصفة بالألم ورغبة بالخلاص من منغصات كثيرة.
فهاهم بوعي ودربة يقتفون حساسية الخطاب الوجداني المتمثل في صدمة «بطلة» هذا النص بذكرياتها التي تسعى إلى نسيانها ولو لبرهة حينما تتداخل وتستعيد بعضا منها بين فينة وأخرى رغم أنها تبذل ما بوسعها من أجل إقصاء ما ينغص، وإبعاده عن المخيلة على نحو ما سعت إليه أثناء ممارسة رياضة الاسترخاء أو « فن «اليوغا» أو التأمل الوجداني..
لكن صدمة الأنثى المحافظة وحصار ذكرياتها تثير الضجيج و التعب وتخلق مزيدا من الحدس و التواتر رغم ما تبذله من جهد في نسيان مشهد مثير ومؤلم (صدمة رؤيتها لزوجها مع زميلة عمل له في بيتهما حينما عادت إليه بشكل مفاجئ) فالصراع هنا تراكمي وتفاعلي لم تنجو منه المرأة - بطلة هذا النص - على مدى عقود.
نحن أمام مجموعة قصصية قررت فيها الكاتبة أن تقدم من خلالها شهاداتها الواقعية على الحياة وعلى من حولها بلغة هادئة لم تحفل أو تعبأ بأي إطناب، أو تكلف فني، أو لغوي، لتجد أن الفكرة هي المحرك الرئيس لفعاليات النص، ومن ثم تأتي لغة السرد على نحو النص الثاني في المجموعة «الأسوار» حينما تتبعت الكاتبة خيط الذكريات لتغوص في تفاصيلها العابرة « المرحلة المتوسطة» من حياتها في التعليم العام لتنتشل الشخصية المحورية من هذا النص خصوصية المعاناة لفتاة تواجه الحياة القاسية، إلا أنها تدخل في ثنائية حزن مضاعف حينما ترى في فناء هذه المدرسة بأسوارها العالية فتاة أخرى تشاطرها الحزن والفاقة وخواء الجيب وجوع الصباح الذي لا تستطيع كبحه لقلة ما في اليد وغياب نقود قليلة تعيد توازن الذات أمام شباك المقصف.
فالقصص أو الحكايات التي استنبطتها القاصة فوزية الجارالله لنا في هذه المجموعة جاءت على هيئة متواليات وجدانية مرتبة بشكل جميل، وواقعي لا تتشعب فيه الفكرة أو تنز إلى فضاءات أخرى .. إنما هي سعي حثيث منها إلى تبيان حقيقة الإنسان ومشاعره تجاه الأشياء بلا تكلف أو تمظهر، على نحو تفاصيل قصتها «الغرق» التي توالت مكنوناتها ولواعجها بشكل عفوي وسلس.
فحينما نتأمل قصة الغرق ونقرأها مرة أخرى نجد أنها في مرمى جزء أو فصل من رواية لأن الأحداث تنقلت من الأرض إلى السماء ومن ثم البحر وما بينهما من عاطفة ووجدانيات وخوف وحلم وواقع وسيرة متهدجة بألم الحيرة والفقد وكشف مخبوء الحياة لا سيما الرجال حينما وصفتهم بثمار الحنظل!
عناصر السرد في مجموعة «لحظات معه» تأتي متوازنة بين حدث مصطبغ برؤية واقعية، وحيز زمان هو الماضي الذي أتعب الشخوص والأبطال في هذه النصوص، وبين مكان يثير الشجن حينما يكون غائرا في فلوات الماضي، وحيز وصفي حديث يثير الفزع ويذكر الكاتبة على نحو خاص بمألات الحياة إلى ألوان من التعب والسفر والهجرة والغياب ليس للمكان الوادع فيه أي حضور أو متعة.
وفضلا عن ذلك فإن العناصر السرد في هذه المجموعة لا تسعى إلى أي تصادم مع الواقع إنما أحداث ترتبها الكاتبة وتستدرجها على لسان الراوي بلغة هادئة ومعبرة، فلا تحمل أي تفخيم أو إطالة أو شرح مستفيض، فالحياة ـ كما تراها ـ الكاتبة هنا لا تحتمل مشروع محاكمة أو جدل، إنما هو سعي إلى الخروج من هذه التجارب الإنسانية الضاربة في عمق الأنثى إلى بر الأمان، ويقين البوح بأن هناك متسعا ما للعودة إلى البراءات الأولى وإن كان على كواهلنا عشرات السنين المعبئة بالتجارب والتفاصيل والعثرات والخيبات التي قد لا ترينا إلا الوجه الأليم من حياة معاندة وشقية.
** ** **
إشارة:
* لحظة معه (قصص قصيرة)
* فوزية الجارالله
* دار المفردات الرياض - 1435هـ - 2014م
* تقع المجموعة في نحو (78صفحة) من القطع المتوسط