Saturday 18/10/2014 Issue 447 السبت 24 ,ذو الحجة 1435 العدد
18/10/2014

«فتنة المشيئة المقدَرة»(1)

ليس هناك إنسان بلا دين، هذه المُسلّمة قد تّشكّل عثرة خلاف، وهو خلاف منشأه سيطرة معنى مغلق لمفهوم الدين عند الكثير منّا، وهو إغلاق مفسد غالبا للأصل سواء أكان الإفساد بالإلغاء أو الإنكار.

وهو ما يُوجب في هذا المقام التوقف عند مصطلح «الدين» وفرعياته.

يُبنى كل مصطلح وفق ثلاث أسس هي؛ المعنى والخطاب والاتصال؛ وتلك الأسس تمر بتدرج منطقي من الثبات الدلالي إلى التأثير الوجداني والعقلي ،بما يعني أن تجاوز حماية دلالة متعلقة بمصطلح تربى عليها العقل التاريخي والعرفي غالبا ما يخضع لصعوبة التفكيك وإعادة البناء نظرا لسماكة العلاقات المُشكِلة لتلك الدلالة والحصول الارتباطي لكمية وقيمة التفاعلات الاتصالية والتي تمنحه بدورها حماية ضد التشكيك والتفكيك، ونحن هنا نقترب من «فخ قدسية المصطلحات العريقة» أو حصرية القدسية الحاصلة من أحادية الدلالة.

إن أصعب أنواع التحليل الثقافي للمصطلحات ذلك التحليل الذي يدفعك للاعتماد على الذهنية المتداولة أو الذهنية الشعبية والصعوبة هاهنا هي أن حاصل تلك الذهنية غالبا ما تمّ تعلمه بالوراثة وهو ما يجعل ذلك الحاصل لايستند على منطق بقدر ما يعتمد على متلازمات وهو ما يجعل التصديق بتلك المتلازمات نهائيا غير قابل للنقاش والتفاوض والتعديل ؛كونها أصبحت من مؤسسات العقل العرفي ومنظومة الثقافة الشعبية، وهذا يجعلها بمثابة عميل مزدوج لنشأة الخطاب وإشاعته.

كما أن ليس في هذه الحالة بالإمكان تجاوز أو تجاهل الذهنية التداولية الشعبية كمصدر أولي لدراسة عيوب فكر وسلوك مجتمع؛ لأنني، كما قلت سابقا، الذهنية التداولية الشعبية هنا عميل مزدوج يؤثر في نشأة الخطاب وشيوعه.

إن تكرار ذهنية تداولية شعبية تُسيّر الخطاب المعرفي للمعتقد ويسير بها يُشير إلى أمرين هما «خصوصية التلقي وفاعلية القصدية».

وهما أقصد التلقي والقصدية ليسا مؤقتين وإنما دائمان بالتوارث والتكرار وبذلك نحن نقف أمام كفاية وظيفية نسقية بين «فاعل عقلي» و»فاعل وجداني» وهما اللذان يصنعان الخطاب المعرفي التمكيني للمعتقد وتحوله إلى «فاعل قدير». تكمن أهمية وخطورة القصدية في أنها العملية التي تقوم ببناء الوعي الجمعي، وبذلك لايمكن أبعادها عن تكوين النسقية المعرفية وما يتطلب ذلك الوعي من أبعاد نفسية ووجدانية وما يلزمه من سلم القيم ومنظومة الأحكام والقوانين، وبذلك يصبح الوعي ارتدادا وتمثيلا لمحتوى القصدية من خلال مجموع الإشارات والرموز المنتَجة عبر خطاب معرفي خاص.

واقتراباً من الموجز المباشر يمكن القول بأن الوعي هاهنا يتوسط بين القصدية والتلقي، وبذلك يَصبح الخطاب موحِدا لتلك الثلاثية «القصدية والتلقي والوعي».

والقصدية عادة ما تعتمد على صفتي «الخطية والأحادية»في بناء الوعي الجمعي بحجة «أصالة الهوية الخاصة»، وذلك الاعتماد هو ما يمنح المفاهيم الحاصلة من خلالها على أحكام نهائية ومغلقة مما يجعل مجموع الأوامر والنواهي الصادرة من تلك الأحكام «مشيئة مقدّرة»، مشيئة تتحول بالتقادم إلى «مأزق لوعي الجماعة» لأنها تُساهم في تشكّل «التطرف الخفي» لِم يُحسب ضمن أصول المعتقد.

وأقول تساهم في تشكيل التطرف الخفي بدلا من قولي إنها هي التي تنفرد بتشكيل «التطرف الخفي» لأن القصدية كصانعة أيديولوجية أو «المشيئة المقدرة» لاتنفرد بحصرية تشكيل «التطرف الخفي» فهناك تتشارك معها القصدية الموجِه من الآخر أو «المشيئة المقدرة المضادة».

تقوم القصدية بمعية الخطاب المعرفي الممثلة لها بتوزيع الإدراك والخبرة الخاصتين على المستهدَفين وبذلك تضمن تحولها إلى معادل للإدراك والخبرة كما تضمن فاعلية سيطرتها على مصادر تكون إدراك وخبرة المستهدَفين، وتضمن ثالثا تكرار شيوع الذهنية التداولية لخطابها المعرفي الخاص.

ومن المهم معرفته أن القصدية لايمكن أن تحقق «فاعلية المشيئة» بلا تحكم في نشأة إدراك وخبرة أفرادها، وهذا التحكم بدوره لا يمكن تحققه إلا من خلال» التلاعب والمتاجرة بانفعالات الفرد والجماعة» مثل الإخافة والصراع والإقصاء.

وتتم سيطرة تلك الفاعلية من خلال «مُنفذِي القصدية» ونستطيع أن نطرح العديد من التوصيفات الوظيفية لفواعل التنفيذ»، وهي توصيفات تختلف باختلاف خلفية القصدية ومضمونها ونوعية المتلقي وظرفياته المتنوعة.

فهناك رجال الدين والعلماء والمنظّرين والنخب في كل مجال، ويتفرّع من «فواعل التنفيذ» طبقات»فواعل التأثير» وهم المسئولون عن «شيوع الخطاب المعرفي» وتوصيله «للمستهدَفين»لتكتمل الدائرة الكهروتأثيرية وفواعل التأثير يظهرون من خلال «الرسالة وناقلها» بما يعني أنهم يمثلون «دورة التلقي» تحت مظلة «دائرة الكهروتأثيرية القصدية» بشقي خطابها المرئي والخفي.

إن كل متلقٍ لرسالة أو خطاب هو صانع نص مستقل؛ هذه الفكرة التي تعلمناها من نظريات النقد الأدبي لايمكن أن تطبق على الخطاب الموجه من قبل فاعل القصدية للمتلقي المستهدف؛ لأمور عدة.

منها كما ذكرت سابقا أن «القصدية» تتصف «بالخطية والأحادية» وهو ما يجعل الخطاب الصادر من خلالها «نهائي الإغلاق» ؛أي غير قابل للتأويل أو مُستجيب لإضافة أو يحتمل مٌهدِد لتوليد أفق توقعات وهي تستفيد من هذه الاستراتيجية في التحكم فيما ينتجه ذهن المتلقي من قوالب معرفية تتطابق مع تعاليم خطاب القصدية؛ أي أن كل القوالب المعرفية التي ينتجها وعي المتلقي هي انعكاسات لتعاليم خطاب القصدية ،وتلك القوالب بدورها تقوم بإنتاج درجة ثانية من ذات تعاليم خطاب القصدية أو ما أسميه» بالإنتاج عبر الارتداد» إن المسألة أشبه بالحفظ من خلال التكرار وتقوية ما يُحسب صحيحا من خلال النسخ المكرر،مما يعزز ترسيخ حدود ثباته.

وهذا الترسيخ هو الذي يصنع فيما بعد»حرمانية التجاوز على خطاب القصدية»بحرية «الفهم والتحليل».

إن تكرار أي «فكرة» بصفة مثالية يحولها إلى مقياس للصواب والخطأ ومصدر لنشأة تعاليم وبذلك نصنع قداسة الأفكار وهي إحدى الوظائف البيانية لخطاب القصدية. وهي القداسة التي تتولى مسألة الحرمانية»؛ تلك الحرمانية التي «تعلو بخطاب القصدية» لمرتبة القدسية وتحصنه «بالعصمة الشريفة».

إضافة إلى أن «حرية المتلقي» لتحليل رسالة أو خطاب يتصفان بالخطية والأحادية غالبا ليس في مصلحة تلك الرسالة والخطاب لأنهما غالبا مايدفعان المتلقي صاحب الخبرة الإضافية إلى اكتشاف سطحية ذلك الخطاب وسذاجته وبالتالي، السعي إلى تعديله أو تغييره، وهذا في ذاته خطر يهدد مضمون القصدية وفواعل تنفيذها وتأثيرها.

لذلك تسعى القصدية إلى محاصرة مفاهيم فاعل التغير والتغيير مثل» الحرية والحضارة والنهضة والحداثة» ومحاصرة مروّجيها بتوصيفات النبذ لضمان إقصائهم اجتماعيا وفكريا.

يبني الوعي مفاهيمه المتحكمة فيها القصدية وفق مجموع من العلاقات السببية من خلال المتلازمات لا المنطق السببي .والوعي جزء من العقل أو الجزء الأكبر من العقل وليس هو ممثل العقل ولا أقصد بالجزء المتبقي من العقل هو «اللاوعي» إنما القصد المساحة التي تُصدّر لنا الخيال والإبداع إنها الفراغ التي يدفعنا للبحث عن المجهول والقفز فوق المنطق التعليلي لاكتشاف مناطق خفية.

وتكرار محاصرة الوعي بحدية العلاقات السببية عبر المتلازمات أو»السلسلة السندية» الحاصلة من الارتداد بين الوعي والقصدية، لا يعيق تطور العلاقات السببية أو جمودها أو تحولها إلى متلازمات مقدسة أو تغيير مسارها وفق النمط النهضوي ودعم خصائص الأبوية إنما يؤدي بالتقادم إلى «تعقيم» تلك المساحة المتبقية من العقل،وهو ما يحبس الوعي المبني على خطاب القصدية في دائرة الاستجابة والسمع والطاعة وتسلبه سلطة تقديره الشخصي لقيمة الأفكار المنقولة إليه من خلال ثنائيتي الحذف والإضافة وقدرته على تغييرها أو تعديلها وفق متطلب العامل النهضوي.

وإذا كان الجزء المرئي من خطاب القصدية هو المختص ببناء وعي المتلقي المستهدف وخبرته وإدراكه ومحاصرته في دائرة الاستجابة المطلقة المحصنة بوجوبية السمع والطاعة، فيظل الجزء الخفي من صناعة ذلك الخطاب بعيدا عن وعي المتلقي والبعد هنا إجباريا نظرا لِم قد يسببه اختراق وعي المتلقي لذلك الجزء الخفي والمشاركة في صناعته لتجريم ذلك الوعي وتعرضه لعقوبات كبرى تصل إلى حد القتل.

ولذلك يظل الجزء الخفي في خطاب القصدية ومايحدث فيه من إنتاج أفكار مقدسة منطقة محرّمة ومقدسة لا يجوز للوعي الحاصل من القصدية الدخول إليها أو العبور النهضوي من خلالها، وذلكم الأمر غالبا مايكون مصدر الصراع بين حراس الجزء الخفي من خطاب القصدية «فاعل المشيئة المقدرة» والوعي صاحب الخبرة الإضافية، وسبب الصراع غالبا لكوّن الوعي صاحب الخبرة الإضافية ينازع حراس الجزء الخفي من خطاب القصدية على «فاعلية المشيئة المقدرة» وتحوّل ذلك الوعي إلى «دين مستقل».

- جدة